أطفال ثقافة الضياع

نشر في 12-10-2016
آخر تحديث 12-10-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي (1)

تسير أمامنا في المجمع التجاري، عطر الماركات العالمية الأشهر يفوح من الساعة والحقيبة والحذاء، وبجانبها زوجها، بينما تسير خلفهما الخادمة حاملة الطفل على كتفها.

(2)

تقف السيارة بالسائق الآسيوي أمام باب المدرسة. تترجل الخادمة الآسيوية ماسكة بيد الصغير، بينما يمسك النوم بأجفانه. تعبر به الشارع، وتنحني تقبّله وتوصيه بإنكليزية مكسرة؛ "كُن شاطراً اليوم، ولا تنسى ما ذاكرناه معا البارحة".

(3)

جالس في الديوانية يشاهد المباراة بين فريقي برشلونة وريال مدريد. دار حديث حول الدراسة والأولاد، سأله صديقه؛ "ولدك الأكبر محمد في أي سنة دراسية؟"

تمطى، وارتسمت ابتسامة بلهاء على وجهه وهو يرد "تصدق لا أعرف".

(4)

جلوسا في المطعم. الضجة تحتوي المكان. هي وزوجها منشغلان بحديث شائك. الضيق يلون نبرة الرجل وملامح وجهه. بينما تنهمك الخادمة الآسيوية بإطعام الصغير في كرسيه.

(5)

"بابا... منذ متى وأنتَ تدخن؟"

ضايقه سؤال ولده المفاجئ. أطفأ السيجارة وردّ وشيء من ضيق في نبرته؛ "من زمان".

"كم سنة تقريباً؟"

"لماذا تسأل؟" صرخ به.

ضعيفاً صدر صوت الابن؛ "اشتغل على استبيان للمدرسة".

"اترك هذا الاستبيان البائس، وقل لهم أبي لا يدخن". قال جملته وترك ولده في جلسته وخرج.

(6)

مضيفة الطائرة تطلب من المسافرين الجلوس في مقاعدهم وإطفاء الأجهزة الإلكترونية وربط الأحزمة. جاءت من مقاعد الدرجة السياحية يسبقها عطرها الفواح وتسريحة شعرها. جلست إلى جانبنا في مقاعد رجال الأعمال. وتخاطب زوجتي قالت: "أبنائي مع الخادمة في مقاعد الدرجة السياحية، ذهبت لأطمئن عليهم".

(7)

واقفة أمام المرآة، متعجلة تضع لمسات مكياجها الصباحي. سألت طفلها الذي يتناول إفطاره بقرب الخادمة؛ "عملت الواجب البارحة"؟

أجابها؛ "Yes mom".

"كُل بسرعة، وحاول ألا تتأخر كما في كل يوم".

"Okay mom".

"متى ستذهب إلى بيت صديقك سامي؟"

"I don’t know, may be today evening".

خرجت مسرعة رمت عليه؛ "Bye".

ظلت يأكل صامتا وصوت الخادمة يحثّه؛ "Hurry up, don’t be late" .

(8)

جمعة الأهل الأسبوعية. الرجال والنساء في أحاديثهم، بينما الأطفال بمختلف أعمارهم لاهون بمتابعة الألعاب الإلكترونية، فكل واحد صادّ عما حوله، في عزلته يلعب بجهاز الـ "آي باد" أو التلفون النقال.

***

أستطيع تسطير عشرات المشاهد المؤلمة لغربة أبنائنا ومأزق حيواتهم القادمة. ومخطئ جداً من يعتقد أنني أتكلم هنا فقط عن دول الخليج العربي. فكيف بشابة أو شاب من أم وأب عربيين وتربى وعاش في بلد عربي، وسيتخرج من المدرسة الثانوية بعد سنوات، وهو عاجز تماماً عن التحدث بلسان أمه باللغة العربية؟! تصور يابانيا لا يتكلم اليابانية، أو إسبانيا لا يتكلم الإسبانية، أو فرنسيا لا يعرف الفرنسية، أو إنكليزيا لا ينطق الكلمات الإنكليزية. تصوروا أن يتقدم إنكليزي لطلب وظيفة في بريطانيا وهو لا يعرف الإنكليزية!

أطفال اليوم هم نساء ورجال الغد. لكن، كيف يمكن لامرأة عربية أن تربي أبناءها في بلد عربي وهي لا تعرف قراءة وكتابة العربية أو النطق بها؟ كيف لرجل لا يعرف العربية أن يطالب أبناءه بحب الوطن؟ وكيف سيقول لهم: "بلاد العرب أوطاني"؟

مأزق الثقافة العربية ليس في أن معدل نشر الكتب في المنطقة العربية هو 1 في المئة، أي ما يعادل ثلاثين كتابا لكل مليون مواطن عربي. ولا لأن 400 كتاب هو حجم الكتب المخصصة سنويا للطفل العربي، مقابل 13260 كتابا للطفل الأميركي، و5838 كتابا للطفل البريطاني، و2118 كتابا للطفل الفرنسي، و1485 كتابا للطفل الروسي.

مأزق الثقافة العربية في أن أجيالا من الأطفال العرب تتربى وليس للعربية مكان في وعيها. أجيال تعيش في أقطار الوطن العربي وهي غير منتمية إليه ولا قادرة على التحدث بلغته. مأزق الثقافة العربية أن أبناءنا - مع الأسف - ضيّعوا المشيتين، فلا هم عرب، ولا أحد يتقبلهم بوصفهم منه. مأزق الثقافة العربية أن عدداً كبيراً من الأمهات والآباء، ولا أقول الجميع، ما عادوا يعطون أبناءهم الأطفال ما يستحقون من رعاية واهتمام. وهم يبحثون عن أي وسيلة تُلهي الطفل وتبعده عنهم. ولسان حالهم يقول؛ "ليسكت وليكن ما يكون".

حتى لو كان ما سيكون هو الكارثة!

back to top