وضع الثورة الشعبوية في مكانها

نشر في 12-10-2016
آخر تحديث 12-10-2016 | 00:06
إذا كان عام 2016 هو عام الشعبوية السياسية بامتياز فذاك لا يعني أن «الانعزالية» وصف دقيق للمواقف الأميركية الحالية تجاه العالم، وفي الواقع يبدو خطاب ترامب في جوانب حاسمة، كقضايا الهجرة والتجارة، في تناقض مع مشاعر معظم الناخبين.
 بروجيكت سنديكيت تعتبر هذه السنة سنة الثورة ضد النخبة في كثير من الديمقراطيات الغربية، وتبشر بعدد من الأحداث مثل نجاح حملة البريكسيت في بريطانيا، وترشيح دونالد ترامب غير المتوقع من قبل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، ونجاح الأحزاب الشعبية في ألمانيا وأماكن أخرى تبشر بنهاية حقبة، وكما قال الكاتب فيليب ستيفنس في جريدة فاينانشال تايمز "يتعرض النظام العالمي الحالي- النظام القائم على قواعد ليبرالية أنشئت في عام 1945 وتوسعت بعد نهاية الحرب الباردة- لضغط غير مسبوق، فالعولمة في تراجع"، وفي الواقع قد يكون من السابق لأوانه استخلاص هذه الاستنتاجات العامة.

ويعزو بعض الاقتصاديين الارتفاع الحالي للشعبوية إلى "الإفراط في العولمة" منذ التسعينيات من القرن الماضي، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وخصوصاً انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001، إذ تلقت هذه التطورات أكبر قدر من الاهتمام.

ووفقا لإحدى الدراسات أدت الواردات الصينية إلى إلغاء ما يقرب من مليون وظيفة في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1999 و2011، وإذا أضفنا إلى ذلك الواردات والصناعات ذات الصلة فقد ترتفع الخسائر إلى 2.4 مليون.

كما صرح الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل أنجوس ديتون "ما هو صادم أن بعض المعارضين للعولمة نسوا أن مليار شخص قد تخلصوا من الفقر إلى حد كبير بسبب العولمة"، ومع ذلك يضيف أن للاقتصاديين مسؤولية أخلاقية لعدم تجاهل أولئك الذين هُمشوا، وقد صب تباطؤ النمو وتفاقم عدم المساواة، الزيت على النار السياسية.

ولكن علينا أن نكون حذرين من إسناد الشعبوية فقط إلى الضائقة الاقتصادية، فقد اختار الناخبون البولنديون حكومة شعبوية على الرغم من الاستفادة من واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، في حين تبدو كندا في مأمن من مزاج المناهضة للمؤسسات التي تؤرق جارتها الكبيرة في عام 2016.

وفي دراسة متأنية لارتفاع دعم الأحزاب الشعبوية في أوروبا، وجد العالِمَين السياسِيَين رونالد إنكهارت من جامعة ميشيغان وبيبا نوريس من جامعة هارفارد، أن انعدام الأمن الاقتصادي في مواجهة التغيرات في أوساط القوى العاملة في مجتمعات ما بعد الصناعية له تأثير أقل من ردة الفعل الثقافي. وبعبارة أخرى دعم الشعبوية هو رد فعل قطاعات سكانية، كانت مهيمنة، للتغيرات التي حدثت في القيم التي تهدد أوضاعها، فـ"يبدو أن الثورة الصامتة في السبعينيات قد ولدت ثورة مضادة ورد فعل عنيفا مليئا بالغضب والاستياء اليوم"، كما كتب إنكهارت ونوريس.

في الولايات المتحدة تظهر استطلاعات الرأي أن أغلب أنصار ترامب من كبار السن، الذكور البيض الأقل تعليما، ويوجد عدد قليل من الشباب والنساء والأقليات في ائتلافه، ويدعم أكثر من 40 في المئة من الناخبين ترامب، ولكن مع انخفاض البطالة على المستوى الوطني يُعزى جزء قليل من هذا الدعم في المقام الأول للمناطق الضعيفة اقتصاديا.

على العكس من ذلك، في أميركا، أيضا، هناك ما هو أكثر من تأثر الشعبوية بالاقتصاد فقط، ولاحظ استطلاع يوغوف بتكليف من مجلة الإيكونوميست تنامي الاستياء العنصري القوي بين مؤيدي ترامب، الذين استخدموا قضية "بيرثر" (التشكيك في صلاحية شهادة ميلاد باراك أوباما، أول رئيس أسود لأميركا)، مما ساعد في وضع ترامب على الطريق السريع في حملته، وشكلت معارضته للهجرة، بما في ذلك فكرة بناء الجدار وجعل المكسيك تدفع ثمنه، بمثابة ركيزة في برنامجه العرقي في وقت مبكر.

غير أن استطلاع منظمة بيو الأخير أظهر تنامي المشاعر المؤيدة للمهاجرين في الولايات المتحدة، نسبة 51 في المئة من البالغين تؤيد القادمين الجدد بدعوى أنهم سيساهمون في تقوية البلاد، في حين يعتقد 41 في المئة أنهم يشكلون عبئا. وتعد هذه النسبة انخفاضا من 50 في المئة في منتصف عام 2010، عندما أثار الكساد الحاد مشاعر مناهضة للمهاجرين. وفي أوروبا على النقيض من ذلك، كان للتدفقات الكبيرة والمفاجئة للاجئين السياسيين والاقتصاديين من الشرق الأوسط وإفريقيا آثار سياسية أقوى، مع تأكيد العديد من الخبراء أن البريكسيت كان سببه الهجرة إلى بريطانيا أكثر من مشكل البيروقراطية في بروكسل.

ويمكن للكراهية تجاه النخب أن تكون نتيجة الاستياء الاقتصادي والثقافي، فقد حددت نيويورك تايمز مؤشرا رئيسا للمناطق ذات الميول لترامب: غالبية السكان البيض المنتمين إلى الطبقة العاملة التي تأثرت سلبا خلال العقود تقلصت على إثرها سبل عيشهم بسبب تراجع القدرات التصنيعية للاقتصاد الأميركي، ولكن حتى لو لم يكن هناك عولمة اقتصادية، فقد خلق التغير الثقافي والديمغرافي قدرا من الشعبوية.

ولكن من المبالغة القول إن انتخابات 2016 ستدعم الاتجاه الانعزالي الذي سينهي عصر العولمة، وبدلا من ذلك على النخب السياسية التي تؤيد العولمة والاقتصاد المنفتح معالجة عدم المساواة الاقتصادية ومساعدة من تقهقرت حالته بسبب التغيير على التكيف، وستكون للسياسات التي تحفز النمو، مثل الاستثمار في البنية التحتية، آثار مهمة أيضا.

قد تختلف أوروبا بسبب المقاومة المتزايدة للهجرة، ولكن من الخطأ التنبؤ بأن النبرة المتحمسة للحملة الانتخابية لهذا العام ستكون لها تداعيات طويلة الأمد على الرأي العام الأميركي، وفي حين تؤكد التوقعات أن الاتفاقات التجارية الجديدة المتطورة ستشهد انخفاضا، فإن ثورة المعلومات قد عززت المبادلات العالمية، وعلى عكس الثلاثينيات (أو حتى الثمانينيات)، لن تكون هناك عودة إلى الحمائية.

في الواقع، ازدهر الاقتصاد الأميركي باعتماده على التجارة الدولية، فوفقا لبيانات البنك الدولي لفترة ما بين 1995 وعام 2015، زادت التجارة السلعية من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.8 نقاط مئوية، وعلاوة على ذلك في عصر الإنترنت، زادت مساهمة الاقتصاد الرقمي عبر الحدود الوطنية في الناتج المحلي الإجمالي بسرعة.

في عام 2014 صدّرت الولايات المتحدة 400 بليون دولار من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT)، مما يناهز نصف جميع صادرات الخدمات في الولايات المتحدة. وفي الشهر الماضي نشر مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية استطلاعا للرأي مفاده أن 65 في المئة من الأميركيين يتفقون أن العولمة في معظمها مفيدة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في حين يظن 59 في المئة أن التجارة الدولية جيدة للبلاد، ويدعم الشباب بشكل قوي هذا الاتجاه.

لذلك، إذا كان عام 2016 هو عام الشعبوية السياسية بامتياز فذاك لا يعني أن "الانعزالية" وصف دقيق للمواقف الأميركية الحالية تجاه العالم، وفي الواقع يبدو خطاب ترامب في جوانب حاسمة- كقضايا الهجرة والتجارة- في تناقض مع مشاعر معظم الناخبين.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top