البائسون بلا بؤس!
من أكثر ما يثير حيرتي في الناس البائسون بلا بؤس! أولئك المعصوبة قلوبهم عن النور والمعصومة عن الحياة، الذين يغزلون الليل في صدورهم بلا كلل أو ملل، ويكدّسون الظلمة في عيونهم، ويتنفسون الشوك شهيقاً وزفيراً، ويبايعون الشكوى على الولاء ما عاشوا، هؤلاء الذين لا يجاهدون في الحياة، إنما يجاهدون الحياة أجد صعوبة بالغة في تحديد مشاعري تجاههم، أحيانا أشعر تجاههم بالشفقة، وأحياناً بالسخط والاشمئزاز، وأخرى بالإعجاب. تعجبني بهم هذه القدرة العجيبة على تحمّل مشقة ما بأنفسهم من وحل، وهذا الجهد المضني والدؤوب الذي يبذلونه في جمع كل ما تقع عليه عيونهم من حجر "كريه" ورميه في بحيرة أرواحهم، حتى لا تعود مياهها صالحة للشرب، أو ري أمل عشبة آيلة لليباس.
تعجبني قوة إيمانهم الذي لا يتزحزح قيد شعرة بقبح الحياة ورفضهم لها، رغم ممارستهم لها والشرب من كأسها حتى القطرة الأخيرة منها، وهذا حقيقة ما يثير الاشمئزاز، تجدهم عند أدنى علة تصيبهم في أجسادهم يسارعون إلى البحث عن دواء لها، وإذا أحسوا بالجوع فلن يدّخروا جهداً في البحث عمّا يسدّ رمقهم، وإذا ما أرادوا عبور شارع مكتظ بالسيارات التفتوا يمينا ويسارا أكثر من مرّة خشية الموت، ولكنهم لا يكفون عن تذمرهم من الحياة وكيل الشتائم المجانية لها، معللين ذلك أحياناً بشعارات كبرى، كانعدام العدالة في هذا العالم المتوحش، أو المجاعة فيه أو التصحّر الذي يلتهم خضرة الأرض، متناسين ومتجاهلين ذلك التصحّر الذي يلتهم أرواحهم.يثير اشمئزازي بحثهم عن شماعة يعلقون عليها بشاعة داخلهم، مع انتقائهم لتلك الشماعة انتقاء دقيقاً، هم لا يختارون شماعة يسهل سقوطها، إنما واحدة لن تسقط ما دام على الأرض بشر، كالبحث عن العدالة الاجتماعية مثلاً، أو الحقوق الإنسانية التي يتم هدرها، أو الحرية الفردية المطلقة، وقضايا أخرى وجودية كبرى ستبقى إشكاليات إنسانية ما بقي الوجود، تبني مثل هذه القضايا الموجعة يضمن لبؤسهم الديمومة، ويسبغ على سوداوية الحياة في صدورهم النُبل كما يظنون! ولو أخذتهم جادة العقل السليم برهة إليها لاكتشفوا أن لافتات الاحتجاج التي ترفع ضد المجاعة لن تسدّ رمق جائع، وأن سيل الشتائم للحياة بسبب التصحّر لن يتحول إلى قطرة ندى تطفئ ظمأ عشبة، والمفردات القاسية بحق الظلم لن ترجّح كفة العدل التي يتمنونها في الحياة، وتلك السلبية التي يغصّون بها ضد الواقع المتخم بالحروب لن تجعل القنابل العنقودية التي تنزل على رؤوس الأطفال عناقيد كرز. إذن ما سرّ هذا التعلّق بالبؤس طالما لن يضيف ذلك مشعل نور في درب الخطوة، ولن يزيح قطعة رهيفة من رداء ظلام؟!في اعتقادي، إن أولئك البؤساء صادقون فيما يصوّرون، وهم لا يتوهمون تلك المشاهد المؤذية للروح في أرجاء الأرض، إنها حقيقة من صميم الواقع، وحقيقي أن هذا الظلم الذي يقع على بعض بني البشر جزء من ظُلمة الحياة، لكن من غير المنطقي أن نكون جزءاً من السواد لكي نزيح الليل، كما ليس منطقياً أن نكون جزءاً من البؤس نصرة للبؤساء!