ما العلاقة بين الإيمان وحرية الاختيار؟ وهل الإنسان مجبر على اتباع دين ما؟ وهل في النصوص الإسلامية إجابة عن السؤالين؟

طلب أتباع الداعية التركي "محمد فتح الله غولن" من مرشدهم الروحي شرح معنى الآية (256) من سورة البقرة "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، فأجاب: "لا يوجد في جوهر وفي لب الدين إكراه، لأن الإكراه يناقض روح الدين، والإسلام يتخذ الإرادة والاختيار أساسا، لذا ليس هناك أي اعتبار أو قبول لأي عمل أو فعل جرى بالإكراه، سواء كان ذلك في أمور الاعتقادات أو العبادات أو المعاملات".

Ad

وأضاف "غولن": إن وضعا مثل هذا الوضع يصادم قاعدة "إنما الأعمال بالنيات" ولا يتلاءم معها، وكما لا يرى الإسلام جواز الإكراه في معاملاته، كذلك لا يرى جواز إكراه الآخرين للدخول إلى الإسلام، لأنه يفضل أن يخاطب الناس وهم أحرار، فأفق الإسلام في المسامحة أفق واسع رحب. ثم إن الدين ليس نظاما يمكن فرضه بالقوة وبالإكراه، لأن أهم شيء عنده هو الإيمان". (ص 260).

وينفي "غولن" أي دور للجهاد والحروب الإسلامية في فرض الدين، ويقول إنها كانت من أجل حماية الحرية والإرادة، وما تأسست هذه الحرية إلا بالجهاد.

ولا يعطي الداعية أتباع ودعاة الأديان الأخرى، أسوة بالمسلمين، حق استخدام الحرب والفتح وتغيير الأنظمة، أداة لنشر دعواتهم وأديانهم، ولكن يضيف: "هناك حكم آخر للآية نفسها يشمل جميع الأدوار والأزمان ويكون سارياً على الدوام، وهو الحكم المتعلق بالأقليات الدينية التي تعيش في الديار الإسلامية، فليس لأحد إكراههم للدخول إلى الإسلام، بل يجب أن يكون الجميع أحراراً في عقائدهم الدينية".

ويشير "غولن" إلى علاقة المسلمين باليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي عبر التاريخ فيقول: "عندما نلقي نظرة على التاريخ نرى بوضوح أن المسيحيين واليهود عاشوا معنا على الدوام. وباعتراف الغربيين فإن اليهود والنصارى لم يكونوا في أمن وسلام حتى في دولهم مثلما عاشوا بيننا، لقد قبلوا دفع الجزية، وقبلوا ذمتنا فقمنا نحن بدورنا بالمحافظة عليهم، ولكن لم يقم أحد بإكراههم في الدخول إلى الدين الإسلامي، وحتى بالأمس القريب كان لهم مدارسهم الخاصة، ويقيمون شعائرهم الخاصة، ويحافظون عليها، والذين كانوا يدخلون إلى محيطهم منا- حتى في أزهر عهودنا- كانوا يرون وكأنهم يعيشون في أوروبا، أي كانت حرياتهم واسعة إلى هذه الدرجة".

ويمكن القول، تكملة لما يورد "غولن" عن أهل الذمة "إنه لم يكن الحال هكذا مع اليهود والمسيحيين وحدهم، بل وكذلك مع أتباع "زرادشت" المجوس والهندوس في الهند فيما بعد، حيث حكم المسلمون القارة الهندية عدة قرون دون إجبار أهلها، وكانوا يتبعون أدياناً غير اليهودية والمسيحية، على ترك عقائدهم، وعندما وقعت الهند تحت الاحتلال الإنكليزي وانتهى فيها الحكم الإسلامي تماماً بعد "ثورة سيبوي" Sepoy Rebellion عامي 1857-1858، كان المسلمون أقلية في تلك البلاد، مقارنة بالهندوس.

واشتهرت الأندلس عبر تاريخها بالتعايش الحضاري في أغلب المراحل بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك اليهود الذين ارتبط مصيرهم في نهاية الأمر بمصير المسلمين في مجابهة التعصب الديني المسيحي ومحاكم التفتيش الإسبانية.

وعايش المسيحيون واليهود فيما بعد الكثير من أجواء التسامح الديني في ظل الدولة العثمانية التي امتدت إلى دول البلقان والمجر وغيرها، وكان المسيحيون الأرثوذوكس في هذه الدول، كما ذكرنا مراراً، يفضلون الخضوع للعثمانيين المسلمين على الخضوع للنمساويين الكاثوليك وسلطة البابا.

وهذا ما نرى وضعا يماثله في التاريخ الإسلامي التقديم الجديد، حيث يتقبل السكان المسلمون حكم القوى الغربية وسلطة غير المسلمين، ويرفضون حكم المسلمين لهم، إن كان الحاكم أو النظام من مذهب إسلامي آخر، بل نجده في بعض يهود إسرائيل الذين يعادون الحكومة الإسرائيلية ويهاجمون مبادئ الصهيونية، ويتعاطفون مع منظمة التحرير والفلسطينيين!

وكان العداء مستحكماً لفترة طويلة بين الاتحاد السوفياتي وبين الصين الشعبية، رغم اتباع الدولتين للاشتراكية الماركسية، في حين كانت للدولتين علاقات متطورة وأشكال من التعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا ودول الغرب!

ولكن هل كانت حرية اليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي، بلا قيود وبنفس درجة ما يتمتع به المسلمون، أو باتساع حرية المسلمين اليوم في أوروبا والولايات المتحدة؟ كلا بالطبع. إذ كانوا يخضعون في أغلب المجتمعات الإسلامية وربما كلها، للكثير من القيود الدينية والاجتماعية، مما يحتاج الخضوع في تفاصيلها إلى مقالات خاصة، ويكفي أن نطالع كتب التاريخ والفقه لنعرف التفاصيل.

وينبغى أن نتذكر كذلك أن المسيحيين أنفسهم في أوروبا كانوا غارقين خلال هذه القرون في الحرب الدينية والصراعات القومية والمنافسات الإمبراطورية بين ممالك أوروبا وضد اليهود، وفي المستعمرات شرقا وغربا، كما أن اليهود عندما أبعدهم ملك إسبانيا الذي أنهى في بلاده حكم المسلمين وطردهم من شبه الجزيرة الأيبيرية، أي إسبانيا والبرتغال، أخرج معهم اليهود كذلك، فلجأ اليهود إلى شمال إفريقيا وإلى الدولة العثمانية في البلقان وتركيا واليونان، فاستفادوا من تسامح العثمانيين واستفادت الدولة من علومهم وعلاقاتهم، يهوداً ومسيحيين.

وكما هو مفهوم في الفقه الإسلامي، فإن الحرية التي يشير إليها "غولن" تشير إلى قبول الإسلام والدخول فيه فقط، حيث لا إكراه ولا إجبار، ولا تشمل بالطبع تغيير الدين.

يقول غولن: إن القيود على أهل الذمة كانت ضرورية للمحافظة على سلامة مجتمعنا، فمثلاً إن ارتد أحدهم عن الإسلام يعدّ مرتدا وتعطى له فترة للعودة إلى الإسلام، فإن لم يعد قُتل". (ص262).

ويضيف إن هذا عقاب مقابل الإخلال بعهد سبق عقده، وهو متعلق بأمر المحافظة على نظام المجتمع، لذا فباسم المحافظة على حقوق جميع المسلمين لم يقم الإسلام بصيانة حياة المرتد وحفظها. إن من يدخل إلى الدين الإسلامي يتكفل بأداء بعض الأعمال، وتجنب أداء بعض الأعمال ولا توجد علاقة لهذا الأمر بالإكراه. إن الإسلام مع عدم استعماله الإكراه للدخول في الإسلام، إلا أنه لا يدع حبل من دخل الإسلام بكامل إرادته على غاربه". (ص262). ولكن الداعية "غولن" لا يناقش نقطة أخرى!

فلربما كانت مثل هذه السياسة الدينية ضرورية في بداية الدعوة الإسلامية حفاظاً عليها وعلى المجتمع الإسلامي يومذاك، وربما كان لا بد من مثل هذه الموانع في زمن انتشار الدعوى في بلاد فارس والشام وغيرها، حيث كانت الظروف العسكرية مثلا تملي بعض الشروط الحاسمة لضمان سير المعارك وغير ذلك من أسباب. ولكن هل مثل هذه المبررات لا تزال قائمة في الوضع الراهن، حيث يعتبر الإسلام بأتباعه الذين يزيدون على مليار ونصف إنسان، من الأديان الرئيسة في العالم، وبخاصة أن دول العالم الإسلامي أعضاء في الأمم المتحدة، وأنها كذلك قد وافقت على القانون العالمي لحقوق الإنسان، وهي حقوق تتضمن حرية الدين والعقيدة؟

وإذا كان دخول سكان بعض الدول الإسلامية قبل مئات السنين بمثابة قبولهم لعقد اجتماعي متعلق بأمر المحافظة على نظام المجتمع، فهل لا يزال مثل هذا العقد ملزما للأجيال الحديثة؟ ولماذا لا نطبق الشروط نفسها والتحفظ على المجتمعات المسيحية التي يتزايد فيها اليوم عدد المسلمين، مثل إنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة والكثير من الدول الأخرى؟

(يتبع غداً)