في ديوانك الأخير «فصل خامس للرحيل» عرّفت الشعر بأنه محاولة لالتقاط اللامرئي، هل تعني بذلك أعماق النفس أم محاولة لرسم عالم كما تريد وتتمنى؟

Ad

حين أقول اللامرئي، أقصد أيضاً اللامحدود واللانهائي، وإيجاد شرخ يكسر البعد الرتيب والتقليدي للواقع. لا أميل إلى الشعر النفسي، أو أن يرسم الشاعر عالماً لنفسه فقط، فهو يحتاج إلى قارئ، فالشعر بالضرورة عملية تواصل معينة. في التقاط اللامرئي تجربة يربط فيها الشعر المحسوس بالمطلق، العالم الفيزيائي بالميتافيزيك، بحيث يتخذ أصغر تفصيل أرضي أحياناً بعداً سماوياً، أو أسطورياً، أو ماورائياً: المسيح كان نجاراً، عقب أخيل المكون من لحم ودم، إلى اللعب على هذه العلاقة، فالشعر وإن اتخذ من الكلمات أو اللغة جسداً، فإنه أيضاً، جرح من جروح الغيب.

ما علاقتك بالصمت وما علاقة الكتابة به؟

علاقتي بالصمت هي علاقة الموسيقى بالصمت، علاقة الغابة بالصمت الحذر والضروري في آن. الصمت أحد المكونات في المقطوعة الموسيقية، ولولاه لأصبحت ضجيجاً مزعجاً. في الغابة، تحتاج أعصابنا المتعبة إلى هذا الصمت المشوب بالحذر في طريق لا نعرفها جيداً. أتعمد أن أترك في دواويني بعض المساحات البيضاء، تلك التي يتحدث عنها رولان بارت وامبرتو ايكو، لإشراك القارئ في عملية الخلق والإبداع وإكمال هذه الفراغات بمخيلته، وهذه فكرة النفري أيضاً في المنحى الصوفي للأشياء بعبارته الشهيرة: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». لو تأملنا في حياتنا، فسنجد أن ما نكتبه على السيرة الذاتية يشكل جزءاً لا يذكر مما حفلت به حياتنا من مشاعر وانفعالات وأحاسيس، كذلك ما نكتبه أحياناً، يبدو هزيلاً أمام ما نعيشه، تغدو اللغة عندها مريضاً صامتاً، يحتاج إلى دم.

اعتمدت في دواوينك قصيدة النثر الزاخرة بالرموز حتى يكاد القارئ يقرأها أكثر من مرة ليفهم مغزاها، فهل هي انعكاس للحياة التي تراها تارة واضحة وطوراً غامضة؟

لا أتقصد حشد الرموز في القصيدة. الرموز التي تتحدثين عنها تنقسم إلى نوعين: رموز مؤنسنة بمعنى يحضر هيغل ونيوتن وفوكو والحلاج والحسين والمسيح ودريدا وغيرهم، وأجد ذلك طبيعياً لأنني ابن ثقافة إسلامية عربية مشرقية من جهة، وابن الجنوب اللبناني وقد ولدت في قرية مفتوحة على الأفق والغيم والطائرات، وتأثرت من جهة أخرى بقضائي فترة لا بأس بها من الزمن في باريس، لدراستي الدكتوراه في الهندسة الطبية. قدومي من الهندسة والفيزياء إلى الشعر رفد القصيدة بزخم أكبر من الأسئلة، في الطريق الوعر أو المنطقة الصعبة التي يشترك فيها الشعر مع الفيزياء والفلسفة في طرح الأسئلة الكبرى عن الإنسان والوجود والـهناك». أستمد النوع الثاني من الرموز من الطبيعة، كالأشجار والغيم، والنار والبحر، وأتعاطى معها بالعلاقة التي شرحتها في إجابة السؤال الأول: تحويل هذه الرموز إلى محفزات (catalyst)، لنسج العلاقة بين النسبي والمطلق. لا أتقصد الغموض أو الوضوح، إنما تأتي القصيدة في طبقاتها انعكاسا لتكويني الثقافي وتربيتي الدينية والعلمانية في آن، وقرآتي ومشاعري وانفعالاتي.

 ما موقع شعرك، هل في الذاكرة أم الوجدان أم في القلب؟

شيء من هذا كله. أضيف أيضاً أن للعقل والفكرة موقعهما أيضاً فيه: أسند كثيراً من الطاقة الشعرية في القصائد إلى الحلم والذاكرة، لكنني غالباً ما ألجم هذا الإسناد لأجعله أيضاً سؤالاً في الثقافة، وهذه الثقافة ذات مرجعيات شرقية، وغربية حداثية وما بعد حداثية ومتنوعة في العلوم والفلسفة والرواية، بحيث تشكل ضغطاً مرجعياً على النصوص، وأبذل جهداً في تسييلها وتذويبها تحت طبقات القصيدة.

ثنائية وتأملات

تبدو ثنائية الحياة والموت في شعرك تسرح وتمرح كأنها لعب على الأفكار، فهل تعتبر أن الشعر يتجاوز هذه الثنائية إلى عالم خاص فيه سمو لا يقوى عليه خوف أو هلع من الموت؟

أظن أن الموت، أو تحديداً رغبتنا في معرفة ما يكون بعده وأسئلة الفناء والدينونة هي أساس الإبداع الأدبي والشعري وحتى الفني أي في النحت والرسم، وأظن أن مقولة ماتيس بأن الفن، أي فن، لا بد من أن يستند إلى قاعدة دينية تندرج ضمن هذا الإطار. في المذاهب الصوفية هناك إشارات ملحة للميلاد الثاني، وهو ما يعني أن الميلاد الأول غير كاف (لنيتشه أيضاً مقولة مشابهة). يعني هذا الميلاد الثاني ضرورة أن نفتح أعيننا من جديد كل لحظة في يقظة أولى ويقظة ثانية. يطرح الشعر بقوة سؤال الوجود، وهو حين تعجز الفلسفة الجافة والمعلومات المسطحة في معالجة الوضع الإنساني البائس خصوصاً في زماننا الحاضر، يطرح الشعر نفسه بقوة كنشاط فكري ووجداني يثبت أن للحياة معنى، ويعطينا جرعة من الثقة بكينونتنا في زمن ومجتمعات تميل نحو التشييء، الشيء الذي يمكن بيعه وشراؤه، وهذا هو العدو أو الموت الذي يخيفني.

في بعض قصائدك حكم وتأملات، فهل هي عصارة تجربتك في الحياة؟

لا أميل الى تعريف نفسي بالحكيم، أو حتى الناضج أو المحترف. أحب ما قالته الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا في كتابها «الشعر والعالم»، وهو بالمناسبة الخطاب الذي ألقته أمام الأكاديمية السويدية عند استلامها جائزة نوبل: «كل معرفة لا تنشىد لنفسها أسئلة جديدة تصير في وقت سريع ميتة، تفقد الحرارة المناسبة للحياة، لذلك أعتز كثيراً بكلمتين صغيرتين هما: «لا أعرف»، صغيرتان لكنهما بقوة مجنحتين، توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا.

ما القاسم المشترك بين دواوينك الأربعة وما أوجه الاختلاف بينها؟

القاسم المشترك هو ما يجب أن يتوافر في كل شعر: الضرورة والكثافة. أحد الشعراء البرازيليين كتب جملة بديعة: «أنظم أبياتا مثل شخص يموت». لكن أيضاً الشعر يولد، الضرورة هي أن تتوافر له شروط الولادة عند من يبدعه، والحرفة التي تنقله من حالة الانفعال إلى اللغة الشعرية المحترفة كما يقول فاليري، والكثافة أيضاً بحيث نبدو وكأننا هزمنا أمام ما نقوله، وقد خرج بالقوة كثافة الولادة حين يخرج المولود من الرحم. نحن نصف كائنات ونصفنا الثاني هو تعبيرنا. أوجه الاختلاف بين الدواوين الأربعة يمكنني أن ألخصها أنني بدأت منذ الديوان الثاني أبتعد عن الشعر النفسي، وبت أميل إلى إشراك القارئ في النص ومحاولة تحويله إلى فاعل ليعيد بنفسه إنتاج المعاني أو تخيل نهايات لبعض القصائد أو وصل ما تعمدت قطعه فيها، وذلك في الديوانين الأخيرين.

إلى أي مدى تفرض الفكرة الشكل الذي تعتمده للتعبير عنها خصوصاً أننا نلاحظ أن لغة بعض القصائد سلسة وسهلة فيما لغة البعض الآخر غامضة؟

يشبه النص الشعري الإنسان كثيراً: غالباً ما تحضرني فكرة معينة، وإذا لم تحضر الفكرة وهي أقرب إلى الإلهام أو شيطان الشعراء فإنني أفضل الصمت، وأن لا أرغم نفسي على الكتابة. حين تحضر الفكرة، من تأمل، أو قراءة، أو جهد فكري في موضوع معين، أو حتى من برنامج للطبخ، أحس بأن الروح قد حضرت وما ينبغي حضوره في العملية الشعرية، وهي عملية خلق بامتياز، هو إيجاد رأس ويدين وخصر وساقين لهذه الروح. لا بد من تناسق بعدها، وانسجام، وجهاز عصبي ساخن يشحن الكلمة، والإيقاع الداخلي الذي يجب أن يتوافر فيها. كتابة قصيدة النثر والابتعاد عن الايقاع العروضي والتفعيلي تحد كبير حين لا نرغب بإرسال الكلام كيفما اتفق واستسهال كتابة أي شيء وتسميته بالشعر.

أسئلة وصور

يزخر شعرك بأسئلة وجودية تغوص في «الأنا» عندك تارة وفي الحياة طوراً، فهل مهمة الشعر طرح الأسئلة فقط أم البحث عن الأجوبة؟

تموت الحضارة حين تموت الأسئلة. أظن أنني أجبتك بمقولة شيمبورسكا عن سؤالك. بخصوص الأنا، أفضل أن يختفي الشاعر خلف نصه، تماماً كما العنكبوت التي تذوب وهي تنسج بيتها. قمة إنكار الذات هو ما فعله الشاعر فرناندو بيسوا حين جعل ذواته المتشظية كل واحدة على حدة، تكتب الشعر بأسماء مختلفة. حبذا لو يستعير الشعر، خصوصاً العربي في شعرائه المكرسين والمحترفين بعضاً من التواضع الذي يتسم به الشعراء في الغرب، أو التواضع الذي يتسم به العلم التجريبي والمعرفة.

تستقي صورك الشعرية من الطبيعة فهل هي مرآة لذاتك أي تعبر عن هواجسك من خلالها؟

أتنزه في الطبيعة وأنعزل أحياناً في قريتي «سجد» فوق أعلى قمة في الجنوب اللبناني أحدق في السماء والغيم والتراب، وأراقب عملية الخلق في الطبيعة، كيف تجتمع العناصر بأسرها في الطبيعة لتصنع الربيع، كيف تنبثق ورقة من غصن الشجرة، كيف تبزغ الوردة في الشوكة. هذه العملية الإبداعية في الطبيعة هي ما يجب أن يتمثله أي شاعر عندما يبدع قصيدته.

«فصل خامس للرحيل»

يصدر الدكتور محمد ناصر الدين قريباً ديوانه الجديد «فصل خامس للرحيل»، وسيوقعه ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» (1 – 14 ديسمبر 2016). حول جديده يقول: «في هذه المجموعة الشعرية عمل على بعض الثيمات المفضلة لدي من قبل، الأشجار والشعراء، ما تقوله المشافي، حديقة الحيوانات، الحرب وهي ثيمة حاضرة في كل الأعمال. ثمة اشتغال على التفاصيل في عمل مينيمالي (minimalist)، والعلاقة بين الكلام والصمت كما أوضحت سابقاً، ومحاولة الحفر في دعامة الصمت التي يملكها البعد الشعري للحياة}.

{فصل خامس للرحيل} هو الخامس بعد أربع مجموعات شعرية هي: {صلاة تطيل اللوز شبراً (2012)، ركلة في قرية النمل (2013)، وذاكرة القرصان (2014)، سوء تفاهم طويل (2015)».