نستقي المعلومة من خبرة الحياة، ومن القراءة. تراكمُها يولِّد معرفةً تكتفي بتظاهرها، إن لم تتراكم هي ذاتها لتولّد وعياً. وهذا الوعي يكفلُ للانسان المقاربةَ بين دبيبِ النمل على الأرض، ودبيبِ لحظات التاريخ عبر الزمان، المقاربةَ بين استحواذِ المادة على الكائن وغيابِ العقل عنه. ثم يرتفع الوعي إلى مراقي الحكمة، حيث يتلاشى الخيطُ الفاصلُ بين المُدرَك بالحواس والمُدرَك دونها. هناك كتبٌ لا تقرأها إلا والقلم بيدك، حرصاً منك على التقاط الجمل التي تراها جواهر، تطلع عليك على حين غِرّة. إنها تخترق، عن غير درايةٍ من الكاتب أحياناً، حجابَ المعلومة، ثم حجابَ المعرفة، ثم حجابَ الوعي لتثبت كجوهرة ثمينة. قلةٌ من الكتاب الذين تبلغ جملتُهم مرقى الحكمة ذاك عن دراية تامة. إنهم ذوو القدرات الذين لا ينطفئ فيهم الفضول، لا للمعلومة أو للمعرفة أو للوعي وحدها، بل الفضول للتأكد من حكمة كل هذا. من عافية كل هذا التي يمكن أن تنصرفَ لمصلحة الإنسان، لاستيعاب مقدار النفع من الثمرة التي تصلُح للقطاف في النهاية. وهؤلاء عادة ما يكون فضولُهم لا مردَّ له، لأنه كالحُب ذاته، وليدُ خلايا جسدهم ومجرى دمهم.

ذاتُ هؤلاء ترفع من قوامها المعرفةُ والوعي، ولكن الحكمةَ فيهم تكبحُ الذاتَ من أن تتضخّم، وهذا القوامَ من أن يتطاول. فعلتْ ذلك مع المعري، ولكنها لم تستطعْ كبحَ مُصْطرعه الداخلي، لا لأنها حكمة ناقصة، بل لأنها اتخذت لديه حالةَ الدراما المصوّتة، تتوهج بمقدار التوهج الصائت لهذا الصراع. هناك آخرون كان الصراعُ الداخلي لديهم غيرَ صائت، يجدُ متنفَّسَه في الحوار، مع النفس ومع الآخر.

Ad

كلا الحوار مع النفس ومع الآخر له موقع رحب في الثقافة الغربية، يُقبل الأول إليك على هيئة "مذكرات"، أو "سيرة ذاتية"، ويُقبل الثاني على هيئة "رسائل" أو "محاورات". ويكاد يغيب بصورة لافتة للنظر في ثقافتنا العربية. والعلةُ تكمن، ربما، في رغبة العربي في الصراع مع الآخر، لا مع النفس. ورغبة الصراع مع الآخر له عقابيل: يمكن أن يُضخّم الأنا، ويولّد الضغينةَ، ويعمي البصيرةَ، ويُفرد الأسودَ والأبيض كمعياريْ حكم. ولعل ظاهرة عجز الكتّاب عن كتابة اليوميات، أو السيرة التي تتضمن معنى الاعتراف، أو تبادل الرسائل الصادقة، العميقة، وتسجيل الحوارات التي تتطلّع للضوء، ربما تكون وليدةَ إرث تاريخي، غير بيولوجي. لأن الانسان حيث يكون ميالٌ إلى ممارسة هذه الفضائل كحاجات غريزية، في الحديث مع النفس، ومع الآخر. إلا أن فعل الكتابة حين ينفصل عن الحاجةِ الداخلية، الجوهرية في الإنسان، ليصبح حاجةً نفعيةً خارجية، وعضلية... يفقد ذلك المحفّزَ (الحاجة الداخلية)، ويُبعد تلك المهماتِ الكتابية عن خطوات الكاتب في طريق نشاطه العضلي العام. في أدبنا الحديث، على وجه الخصوص، هناك مسعى دائمٌ صريحٌ، ومُخاتل أحياناً، لإرضاء الذات. هناك جرأةٌ في المكاشفة أحياناً، ولكنها عادة ما تتطلع إلى الإثارة وحدها، وهي وليدةُ حاجة نفعية للشهرة، أو للكسب المادي. إنها ليست مكاشفة تتطلع إلى الحكمة. لأن الحكمةَ وليدةُ وعي، هو آخر مراحل المعرفة.

في الثقافة الغربية، كما قلت، قطع كتابٌ كُثرٌ تلك المراتب باتجاه الحكمة، ولقد وفر ذلك لهم وللآخر فيضاً من أدب اليوميات، والسير الذاتية، والرسائل والحوارات. ولقد ظل هذا النتاج الإبداعي أقربَ النصوص إلى قلب وعقل القارئ الغربي. ولا أتردد في القول بأنه الأقرب إلى عقلي وقلبي، أنا الكاتب العربي، شخصياً. فأنا أتسقّطُ هذه النصوص، أجمعها، وأقرأها بمتعة، ولا أُخفي رغبتي العميقة في مُجاراتها.

ومازلت إلى اليوم أعيدُ قراءةَ كتابين من كتب المحاورات هذه، منذ اطلعتُ عليهما قبل أكثر من ربع قرن. الكتابان كلاسيكيان، يعودان إلى نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. الأول مع الانكليزي الدكتور صموَيل جونسون، حاوره جيْمس بازوَيل. والثاني مع الألماني ﮔوته، حاوره يوهان أَكرمان. وكلُّ واحد منهما يستحقُ حديثاً تعريفياً خاصاً، سأحاوله في أعمدة قادمة.