حين تم ترشيح الشاعر والمغني بوب ديلان لنيل جائزة نوبل، كان الاعتقاد بأن الأمر لن يتجاوز مرحلة الترشيح، وأن الجائزة التي استمرت لسنوات طويلة تعتمد جائزة الأدب للرواية والشعر الذي لم نعتد أن يغنيه صاحبه مصحوباً بآلة موسيقية أو فرقة موسيقية، لن تُحدث هذه الحالة الإرباكية التي أثارت ردود فعل لدى الكثيرين. وردود الفعل جاءت نتيجة طبيعية لخروج الجائزة عن المألوف، ولكنها لم تكن ردودا منطقية أو مقنعة، وربما انحازت للروائيين المرشحين والذين بالتأكيد يستحقون نوبل، ولكنهم تجاهلوا أن الفائز تستحقه نوبل لا يستحقها فقط.

بوب ديلان شاعر أولاً، ومغنٍ ثانياً، وبينهما يعتبر الرجل صاحب تاريخ حافل منذ بداياته في الستينيات وحتى اليوم، في الدفاع عن الإنسان وحقوقه التي تدمرها الحروب والقوى الطاغية. كان شاعرا مؤثرا في الحركات السياسية والاجتماعية ومثالا لأجيال عاصرته منذ خمسة عقود كأحد أهم الشخصيات المؤثرة في الحياة الأميركية والعالمية. وبالتأكيد كان على المستوى الفني أحد مجددي مفهوم موسيقى "الفولك" واعتماد الشعر بمعني poetry بديلا لما يعرف بـ lyrics أو الشعر الغنائي. وكان الفرق بينهما أن الأول جنس أدبي أكاديمي، أما الثاني فهو شعر غنائي لا تعتمده المؤسسة التعليمية والأكاديمية.

Ad

نشر الناقد والأكاديمي السير كريستوفر ريكس عام 2004 كتابا نقديا ضخما عن تجربة بوب ديلان بعنوان "رؤى ديلان للخطيئة" تناول فيه تجربته الشعرية والتي أدرجها في سياق شعراء كبار أمثال اليوت وكيتس، وطالب نقاد وأكاديميون بإدراج أعمال ديلان الشعرية في المناهج المدرسية، كما هي مقررة في أغلب المقررات الأكاديمية في الأدب الإنكليزي. ومنذ عام 1996 وأصوات نقدية مهمة كانت تطالب الأكاديمية السويدية بمنح بوب ديلان جائزة نوبل للأدب والتي حصل عليها هذا العام.

ارتبط اسم بوب ديلان بمغنية مهمة في الحياة الاجتماعية والسياسية الأميركية، وهي المغنية جون بايز التي امتدت رحلتها معه منذ ستينيات القرن الماضي، وعملا معا في مناهضة الحروب والتمييز العنصري وحقوق الأقليات في المجتمع، واعتمدت جون بايز على أشعار بوب ديلان وغنت له القصيدة الشهيرة "بالله الذي إلى جانبك". وكاد موقفهما المناهض للسياسة الأميركية أن يدمرهما، لولا أنهما اعتمدا الساحات والتواصل المباشر مع الجمهور.

أعود لردود الفعل المتسرعة التي صدرت بنبرة استهزاء وازدراء للرجل، خصوصا في العالم العربي. هذه الردود بحاجة فعلا إلى معرفة دور بوب ديلان ثقافيا وأدبيا واجتماعيا وسياسيا، قبل أن نضعه في زاوية المغني التي تحمل في الذهن العربي وغير العربي صورة نمطية لم ترتبط بالشعر أو الأثر الأدبي.

هذه الردود تشير إلى أمرين، أهمهما أننا لا نعرف في ثقافتنا العربية الحديثة الشعر الشفاهي أو الشعر الذي لا يحتاج شاعره إلى طباعته في كتب، ما دام يستطيع أن يؤديه غناء. وما فعله بوب ديلان كان هو ما يحدث في الشعر القديم حين كتبت القصائد لتؤدى وليس لتطبع. أما الأمر الثاني فكان تصريح ممثلة اللجنة بأنهم منحوا الجائزة لشاعر كبير ومهم يعتبر امتداد لميلتون ووليم بليك، وهذه دعوة لكي نقرأ شعره. ولكننا لم نمنح أنفسنا فرصة أن نقرأ له قصيدة واحدة قبل أن نهاجمه.