بنظرتنا السحرية إلى الواقع وإلى كثير من القضايا، استسلمنا لتفاؤل عارم بأن "الإنترنت" ستحدث انقلاباً نوعياً في مسلكياتنا الاجتماعية وربما طبائعنا. فهي ستقلب، أو هكذا كان الاعتقاد، نمط حركتنا في العمل والترفيه، فتصنع بالتالي مواطناً فاعلاً حيوياً بدلاً من المتلقي الخامل الذي صنعته مفاعيل عقود من هيمنة وسائل التواصل الأحادية الجانب كالإذاعة والتلفزيون.

وهذا الأمل في أن تمهد الإنترنت الطريق تجاه إيجاد كيانات وعوالم بديلة، وكذلك هويات خالية من الكراهية، تَشكل بديلاً لما تغرق فيه مجتمعات واقعية، برهن الزمن والممارسة على أنه لا ينهض على أساس معقول. ذاك أن معظم مستخدمي الإنترنت حملوا معهم إلى الفضاء الإلكتروني أفكارهم وأهواءهم وعاداتهم وميولهم وسلوكهم السوي والمنحرف معاً.

Ad

وبات معلوماً أن هذا النزوح الهائل من عالم حقيقي إلى آخر افتراضي تأتّى عنه انتقال الآفات والإشكاليات إلى الفضاء الإلكتروني الرحب، فلم يعد صادماً حجم "الوساخات" والهمجية التي تحكم التعامل اليومي في العالم الافتراضي. غير أن الصدمة العظمى كان مصدرها الفصام الحاد بين ما يمارسه البعض في عالم افتراضي وما يدعونه في العالم الواقعي، فتلك حالة من الذهان الشديد التي تلوح أعراضها وصفاً دقيقاً على الإصابة بعطب عميق في الشخصية.

مذهل حقاً الكيفية التي تمكنّا بها من تطويع الإنترنت لشروط اهتماماتنا الغريزية، وبالتالي إجهاض الأمل في اعتمادها ركيزة للرقي الحضاري، أو في أضعف الإيمان أداة لتشذيب ثقافتنا وتهذيب سلوكنا. وبهذا المعنى، فإن الفضاء الإلكتروني "الافتراضي" لم يعد عالماً منفصلاً عن الفضاء الواقعي "الحقيقي"، بل مندمج فيه بشدة، وما نشهده في ربوعه ليس سوى حقيقتنا العارية.

والحال أن أية تقنية عظيمة وكبيرة لها بالفعل القدرة على أن تغير المجتمع، أو على نحو أكثر دقة، أن تضع شروطاً لتغييره، إما للأفضل وإما للأسوأ. ولكن في عالم يعج بالفظائع والصراعات والحروب والمذابح الجماعية يشق على المرء أن يجد أساساً أخلاقياً صلباً للتعامل مع قضاياه اليومية، وهذا ما يفسر، إلى حد كبير، التواصل الخشن والعنيف بين أبناء مجتمعاتنا قي العالم الافتراضي، والأهم أن ذلك يشير إلى أن مشكلتنا ليست في تقبُّل التقنيات وحسن استخدامها، بل هي في الأساس ذات طبيعة أخلاقية.