الرئيس الذي يحارب نفسه

نشر في 16-10-2016
آخر تحديث 16-10-2016 | 00:12
لا توجد معلومات تحسم الاتهامات التي وُجِّهت إلى إردوغان عقب فشل المحاولة الانقلابية ضده، لكن من حق المتابع والمحلل أن يستغرب ذلك العدد الهائل من قرارات الاعتقال والطرد من الخدمة التي تلت تلك المحاولة، وقبل مرور ساعات على إحباطها، وكأنما الكشوف كانت معدة، والقوات متأهبة للتنفيذ.
 ياسر عبد العزيز يوم الأربعاء الماضي، اعترف رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بأن أوضاع الحكم القائمة في بلاده راهناً ليست قانونية، حين قال معلقاً على الخطط الرامية إلى تحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية، عبر إجراء تعديل دستوري: "علينا أن نعطي الأمر الواقع وضعاً قانونياً".

على مدى أكثر من عقد، تعامل المجتمع الدولي مع تركيا باعتبارها دولة مزدهرة على طريق الديمقراطية والحكم الرشيد، لكن هذا الأمر يبدو محل شكوك عميقة الآن، وهو شيء يدعو إلى الأسف.

من المؤكد أن الرئيس إردوغان يستند إلى قاعدة جماهيرية صلبة، خصوصاً في أعماق البلاد، كما تتعزز حظوظه التنافسية دائماً بإنجازات اقتصادية وخدمية وتنموية مبهرة تحققت في سنوات حكمه، التي امتدت من 2003 إلى 2014 كرئيس للوزراء.

في تلك السنوات استطاع هذا الرجل أن ينقل تركيا من وضع بائس ومتدهور إلى مكانة رفيعة، عبر خطط تنمية وتحفيز اقتصادي ناجحة وفعالة.

وعندما كان بصدد إنهاء ولايته الثالثة والأخيرة كرئيس للوزراء، كانت بلاده واحدة من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً في العالم، متمتعة بنمو اقتصادي مطرد ومستقر، وبقدرات سياسية وعسكرية معتبرة.

لم يتقبل أردوغان حينئذ فكرة أن يترك موقعه، ويسلم "الراية الخفاقة"، لأحد زملائه في الحزب الحاكم، ويترك التاريخ يتحدث عن منجزه، ولا حتى قنع بالحصول على منصب رئيس الجمهورية الشرفي، والعمل لفترة أو فترتين رئاسيتين على رأس الدولة ورمزاً لها، دون أن تكون له أدوار تنفيذية.

لقد خاض الانتخابات الرئاسية في 2014 بالفعل، ولم يجد أي منافس يمكن أن يهدد حظوظه، وبات رئيساً للبلاد، خلفاً لزميله في حزب العدالة والتنمية وحليفه القديم "عبدالله غول".

لم يرض إردوغان بالصلاحيات الشرفية التي يمنحها له منصبه الرئاسي، وفق الدستور، ولم يلعب الأدوار نفسها التي لعبها بإتقان واستقامة خلفه "غول"، وراح يتغول على الصلاحيات التنفيذية التي يحق فقط لرئيس الوزراء أن يتمتع بها.

أتى إردوغان بـ"أحمد داود أوغلو"، الذي كان وزيراً للخارجية في حكوماته السابقة، وعينه رئيساً للوزراء، لكن هذا الأخير ما لبث أن أدرك أنه تحول إلى مجرد صورة، وأن صلاحياته الواسعة كحاكم فعلي للبلاد تتقلص، ليصبح بمنزلة "سكرتير الرئيس".

استقال "أوغلو" من منصبه، لكن هذه الاستقالة لم تترك أثراً في الرئيس، الذي مضى سريعاً إلى تعيين يلدريم في المنصب الشاغر؛ وهذا الأخير نفسه أتقن ببراعة لعب الدور المرسوم له، فبدا أكثر حرصاً على تكريس سلطة الرئيس، وها هو يعلن أنه آن الأوان لإعطاء تلك السلطة الشرعية القانونية اللازمة، عبر تعديل الدستور، لتتحول تركيا إلى جمهورية رئاسية.

لقد حال بقاء إردوغان الطويل في السلطة، وملامح شخصيته الفخورة، وتعلقه الظاهر بالحكم، دون صيانة مُنجزه السياسي على النحو الأمثل، وربما لن تُمكّنه تلك العوامل أيضاً من الحصول على ختام مناسب لحياته كزعيم ورجل دولة.

يشرح الأكاديمي التركي "ألتر نوران"، الأستاذ بجامعة بيلجي، بإسطنبول، التغيرات التي طرأت على شخصية إردوغان على مدى سنوات حكمه في كلمات قليلة لكنها موحية؛ إذ يقول: "لقد تحول من البراغماتية إلى الأيديولوجية، ومن العمل الجماعي إلى القرارات الشخصية، ومن الديمقراطية إلى الاستبداد".

لتلك الأسباب نفسها، بات الكثيرون يتوقعون ردة فعل قوية بحق سياسات إردوغان المتعالية، ورغبته الواضحة في نقض الأساس الذي بنيت عليه تركيا الحديثة، عبر تصفية "الأتاتوركية" لمصلحة النزعة السلطانية المستندة إلى إحياء الأيديولوجية الدينية.

لقد أتت ردة الفعل في 15 يوليو الفائت، حين وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي اتخذها إردوغان مطية لكي يُفعّل سياسة تطهير سياسي غير مسبوقة في العقود الخمسة الماضية.

وأصبحنا جميعاً نعرف أن الرئيس، استغل تلك المحاولة الانقلابية، لتصفية أعدائه وخصومه ومنافسيه، وحتى هؤلاء الذين لم يصطفوا في تأييده أو يهتفوا له بهمة، وهو الأمر الذي عزز نظرية "المؤامرة"، وانعكس في تحليلات وتصريحات اعتبرت أن "الانقلاب الفاشل لم يكن سوى تدبير إردوغاني للحصول على غطاء لقرارات صعبة يريد اتخاذها لتوطيد سلطانه".

لا توجد معلومات تحسم تلك الاتهامات التي تم توجيهها لإردوغان في هذا الشأن، لكن من حق المتابع والمحلل أن يستغرب ذلك العدد الهائل لقرارات الاعتقال والطرد من الخدمة التي تلت تلك المحاولة الانقلابية، وقبل مرور ساعات على إحباطها، وكأنما الكشوف كانت معدة، والقوات متأهبة للتنفيذ.

ثمة 40 ألف معتقل، ومائة ألف مطرود من الخدمة بالجيش والشرطة والقضاء والتعليم، ومئة صحافي مسجون، فضلاً عن مئات المدارس والمنظمات الأهلية، و45 جريدة، و16 محطة تلفزيون، وثلاث وكالات أنباء، و15 مجلة، و23 إذاعة، و29 دار نشر تم إغلاقها.

يقول "كمال كيليغدار"، أحد كبار معارضي إردوغان، والذي سانده خلال المحاولة الانقلابية، رافضاً تغيير نظام الحكم بالقوة: "بعد كل هذه القرارت الانتقامية والاحترازية الطائشة، لم يعد ممكناً القول إننا نعيش في نظام ديمقراطي".

لم يتوقف إردوغان حتى هذه اللحظة عن تصفية أي منبر أو حالة أو إمكانية يمكن أن تعارض سياساته، باستخدام القوة الباطشة، وآخر إبداعاته في هذا المجال حدث عندما اعتقل أخيراً كاتباً مرموقاً هو "محمد ألتان"، بتهمة "توقع وقوع الانقلاب في مقابلة تلفزيونية قبل حصوله بيوم".

ليست هذه أسوأ الأنباء الآتية من تركيا، فقد تمت إقالة أعضاء 28 مجلساً بلدياً منتخباً، وتعيين آخرين من أنصار إردوغان بدلاً منهم، وهو الأمر الذي يضرب الأساس الديمقراطي للحكم المحلي في البلاد.

وثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن أداء السياسة التركية في الملفات الخارجية، خصوصاً ما يتعلق بالعراق وسورية ومصر وليبيا، أو بالعلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، لكن ذلك يظل ضمن أطر تشخيص تركيا لمصالحها القومية.

أما ما يدفع إلى التساؤل بحق فليس سوى سعي هذا النظام، الذي حقق نموذجاً ملهماً في الإقليم، إلى نقض الأسس التي انتُخِب على أساسها، وإنتاج أوضاع شبيهة بتلك التي أورثت معظم دول الشرق الأوسط العوز والضعف.

* كاتب مصري

لدى تركيا الآن 40 ألف معتقل و100 ألف مطرود من الخدمة بالجيش والشرطة والقضاء والتعليم و100 صحافي مسجون

عندما كان إردوغان بصدد إنهاء ولايته الثالثة والأخيرة كرئيس للوزراء كانت بلاده واحدة من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً في العالم مع قدرات سياسية وعسكرية معتبرة
back to top