"عشق البنات" الرواية الثانية للكاتبة والناقدة د. هويدا صالح، قرأت لها من قبل رائعتها "عمرة الدار" تدور حكايتها بالصعيد وتختلف أجواؤها تماما عن روايتها الثانية، حيث انتقلت فيها إلى مدينة حلوان والمجتمع المدرسي هناك، وقصص حكايات المدرسات وحياتهن العامة بالمدرسة وأسرارهن الخاصة يثرثرن بها بمكاشفات البوح والنميمة، قصص كثيرة متشابكة متعددة المشاهد واللقطات، تتنقل بين المدرسة وأسرار البيوت وقصة حياة كل واحدة منهن، وجميعهن يعانين أشواقهن وعواطفهن وحاجتهن إلى الحب والحنان في علاقتهن مع أزواجهن، ولكل واحدة منهن وضع حياتي مختلف عن الأخرى، سواء المتزوجات أو العازبات، لكن جميعهن يعانين قهر السلطة الذكورية وعدم تفهمها حاجة النساء العاطفية مما يخلق فجوة بينهم.

هويدا صالح كاتبة اجتماعية بجدارة، استطاعت كشف ونقل الواقع المغلق لعالم المدرسات، خاصة بحركة نقل المشاهد بين المدرسة والفصول والبيوت والطريق والحافلات بحيوية متدفقة ذكرتني بفيلم "الطريق المسدود" قصة إحسان عبدالقدوس وبطولة فاتن حمامة، حيث مجتمع النميمة يدور بين المدرسة والبيوت والغيطان، هويدا نقلت حياة المدرسات بخفة دم وتحليل نفسي عميق لكل شخصيات الرواية، وهذا يتطلب معرفة واندماجا قويا بالحياة الاجتماعية، وأظن شخصيتها بطبعها اجتماعية.

Ad

حين أنهيت الرواية قفلت الكتاب وجلست أفكر وأتساءل هل الشعب المصري بحق تنطبق عليه مقولة إنه شعب حبيب كما نقول بالخليج؟

فكل بنات ونساء الروايات لا يستطعن أن يعشن بدون حب، وكل واحدة منهن تعاني هذا الفراغ العاطفي، وإن كنا متزوجات، لكن أزواجهن لا يملأون حياتهن العاطفية، وحتى مع وجود أطفالهن إلا أن حاجتهن إلى الحنان والحب والاحتواء الجسدي هو مطلب أساسي لهن، مما دفعني للمقارنة بينهن وبين النساء الخليجيات اللاتي يعاني بعضهن ذات المعاناة مع رجالهن، لكنهن يعشن بجفاف عاطفي يفرغن فيه عاطفتهن على بيوتهن وأولادهن وأعمالهن والزيارات والتسوق بالمولات والجلوس بالمقاهي، لكن لا يبحثن عن حب بديل مهما كان ظمأهن فادحاً، وهذا دليل وبرهان على الطبيعة العاطفية للشعب المصري، هذه العاطفية تزيد من تداخل العلاقات بين الناس وتقلل من فرديتهم، فالعاطفة تشد وتتدخل بكل تفاصيل حياتهم، وهو ما شعرته في عالم المدرسة المحكوم بفضاء محدد جعل حياة من فيه مكشوفة تماما للآخرين، لا عزلة ولا فردية ولا حياة خاصة، الكل يعيش حياة مفتوحة ومعلنة للجميع، وأيضا دفعتني هويدا للمقارنة بين تكتم الحياة في الخليج وانفتاحها بمصر أقصد الحياة الخاصة، ففي مدرسة هويدا لا سر يخفى عن الجميع، أسرار الحياة الاجتماعية مشاعة ولا غضاضة بذلك.

"عشق البنات" رواية جريئة تفتح بصراحة أشواق وأوجاع النساء النفسية وآلامهن العاطفية، وعدم تفهم الرجل لطبيعة المرأة وحاجتها إلى الاحتواء والتفهم، والمشاركة بالعلاقة الجسدية الحسية بالتساوي بينهما، هويدا استطاعت تقشير هذه العلاقات غير المتوازنة وكشف مستورها بأصابع جراح نكأها، لتبين الحياة الهشة التي تعيشها النساء تحت مسميات مختلفة للغبن والانكسار وظمأ الجسد وغربة الروح عن وجودها.

عوالم النساء الحميمة التي لا يعرفها أحد والغوص بأعماقهن واستجلاء أحلامهن وآمالهن من خلال شخصيات المدرسات اللاتي يمثلن نماذج مختلفة عبرت عنها بطلات الرواية سلوى ووفاء ومها وسمية وعلياء وانتصار وسهير وابتسام ومنال وأخريات أرهقني التنقل بينهن ومعرفة حكاياتهن، أجادت هويدا بتجلياتها عنهن مثل هذا الوصف الذي كتبته: "لما أكون ماشية في الشارع وأبص في وجوه الستات أشوف عليها كدرة وشقاء غير مبرر، وعيون دبلانة ومنطفئة، أعرف أن معهن رجالا خائبين فقدوا آدميتهم في اللهاث وراء لقمة العيش، كل امرأة تبدو عليها الكآبة وضياع الروح يبقى معاها راجل معرفش يلمس روحها أكيد".

كتابة مثل هذه تحتاج بالفعل إلى كاتب له قدرة على فهم وفك غرز واشتباكات خيوط الحياة الاجتماعية والغوص فيها، ليس فقط كمراقبة بل كمعايشة وطبيعة مخلوقة اجتماعية، وهو ما توفر في الكاتبة ونجحت في نقله على الورق: "وأرى كل نسائك بائسات معذبات بحرية متوهمة، حرية لم يستطعن دفع ثمنها، صنعت خطوط شخصياتهن بدقة وقصدية، جعلت كل نسائك فاضلات ومقهورات".

ورغم قولها إن هذه الشخصيات ليست إلا كائنات مشكلة من قبلها فإن حتى التشكيل لا يأتي من فراغ، ففكر الكاتب وليد مجتمعه.