لا نجد على مر التاريخ البشري كتاباً سماوياً تميز باحترام العقل وإعماله كالقرآن الكريم، فلا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم، فنجد ذلك في الدعوة الملحة إلى توجيه العقل للنظر في الكون، والتأمل في ما حواه من نظام وترتيب بديعين، توصلاً إلى إدراك وجود الخالق الحكيم ووحدانيته، وسعياً إلى الاستزادة من العلم والمعرفة، واكتشاف قوانين الكون المذهل وأسرار الطبيعة البديعة. فكان من آثار ذلك تجاوب المسلمين السريع، وإقبالهم الكثيف على العلم والمعرفة بكل قوة، واستيعابهم المذهل لعلوم الأولين ومعارفهم، وإفادتهم من حكم الآخرين وتجاربهم وثقافاتهم، وأصحاب الحضارات السابقين، مما أنتج في النهاية حضارة إسلامية عالمية، كانت مناراً تنويرياً ثقافياً وعلمياً، أنجز اكتشافات مبدعة في ميادين الطب والكيمياء والزراعة والنبات والرياضيات والفلك والجغرافيا والطبيعة وعلم البصريات، إضافة إلى ميادين العلوم الإنسانية: الفلسفة والآداب والتربية والشريعة... إلخ. التساؤل المطروح باستمرار الذي يشكل تحدياً للمسلمين: إذا كان المسلمون أنجزوا تلك الحضارة العظيمة، وحققوا ذلك التقدم العلمي والمعرفي فلماذا تدهورت تلك الحضارة الزاهرة؟ ولماذا توقف التقدم العلمي والمعرفي؟!أسباب ذلك، في تصوري، ترجع إلى 9 عوامل:
1- العامل السياسي: وأقصد به انحسار مبادئ الشورى والعدالة والمساواة، وشيوع المظالم، والانفراد بالحكم، وحرمان الأمة من المشاركة في الشأن العام، مما أنتج في النهاية صراعات على السلطة وانقسامات ودويلات متحاربة انعكست سلباً على الحضارة الإسلامية، وبخاصة في عصر الركود: القرون 8 إلى 11 هجرية. 2- العامل الاجتماعي: أقصد به تهميش دور المرأة في الحياة العامة ثقافياً واجتماعياً وتعليمياً، نتيجة شيوع ثقافة مجتمعية عامة، تنتقص من إنسانيتها، وترتاب في حضورها الاجتماعي، وتحظر دورها المجتمعي، وتشكك في مسلكها خارج البيت بذريعة الفتنة والفساد وشيوع المنكرات، لتحرم المرأة من المسجد والمدرسة ومن أي إسهام نافع لدينها ومجتمعها، وليصور الإسلام سجاناً للمرأة! كما قال الشيخ الغزالي رحمه المولى تعالى. 3- العامل الفكري: لقد امتاز الإسلام بإعلاء عمل العقل وحرية الفكر والمعتقد، وعرف المسلمون بسعة الصدر والتسامح مع الآخر الديني، والانفتاح على الشعوب والحضارات، لكن هذا لم يستمر طويلاً، فقد جاء حين من الدهر ساد فيه التضييق على الفكر، والحجر على الرأي، والمغالاة في تقديس الشيخ، والتعصب للمذهب، واتهام المخالف للثقافة السائدة، والتنكيل به، فتعطلت ملكات الإبداع والابتكار، وأغلق باب الاجتهاد مظنة الاتهام، فهيمنت صناعة الشروح والذيول والحواشي، دون أي تجديد أو تطوير. 4- غياب المنهج النقدي: إن منهج نقد الذات من أساسيات ديننا، لكن حضارتنا لم تضع آلية لتصحيح الأخطاء أولاً بأول، وعدم تراكمها ضماناً لاستمرار المنجزات الحضارية وتطويرها، فغاب الفكر النقدي، وتعطلت آلية التحليل العقلاني، فسادَ الفكر الخرافي، وهيمن على العقلية العربية، فتوقف التقدم العلمي والمعرفي، في المقابل تبنت الحضارة المعاصرة آلية "النقد الذاتي" فضمنت استمرار منجزاتها وتطويرها. 5- تحول الطرق التجارية من حواضر العالم الإسلامي إلى أوروبا، بدءاً بالقرن 13م، بعد أن كان المسلمون سادة الطرق التجارية، بفضل الجمل العربي، وينقلون التجارة العالمية، لكن الغرب باختراعه الأساطيل البحرية استطاع نقل التجارة العالمية عبر الموانئ بدلاً من الطرق البرية، فخسر المسلمون السيادة على الطرق. 6- اكتشاف أميركا وفتح صفحة جديدة أدت إلى إغناء أوروبا وتهميش العالم الإسلامي. 7- الغزو المغولي المدمر لبغداد والمراكز الحضرية الإسلامية في القرن 13م. 8- ارتباط المنجزات العلمية الإسلامية بتحقيق أغراض دينية عبادية: تحديد سمت القبلة والمراصد لاستطلاع الهلال... إلخ، فلما تحققت الأغراض ضعف النشاط العلمي. 9- المعارف العلمية التي توصل إليها العلماء الأعلام، لم تتحول إلى قوانين علمية تجمعها، وتجسدها مدارس علمية تقودها نخب علمية في حواضر العالم الإسلامي، تتواصل وتتفاعل لتحقيق التطوير العلمي، المانع من التوقف والانتكاسة، حتى جاء الغرب وتبنى تلك المعارف، وصيرها نظريات وقوانين ومؤسسات.ختاماً: هذا ملخص ورقتي لمؤتمر العلوم في الحضارة الإسلامية، من تنظيم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مع جامعة الكويت، ضمن احتفالية الكويت عاصمة الثقافة الإسلامية.*كاتب قطري
مقالات
علوم الحضارة الإسلامية وعوامل تراجعها
17-10-2016