لا أقول إن فيلم Voyage of Time: The Imax Experience يشكّل بلسماً للروح لمجرّد أنني شاهدتُه عشية المناظرة الرئاسية في الولايات المتحدة، فقد نظّم العاملون في شركة «آيماكس» هذا العرض المضاد في الوقت نفسه عن طريق المصادفة. أو ربما تأثرتُ بذلك الحدث فعلاً. في النهاية هل كنتُ لأنجذب إلى أسلوب براد بيت السلس بدور الراوي لو أنني لم أتحمّل للتو ساعة من الصراخ الغاضب والشهيق المتواصل؟ بعد ذلك الكلام المشحون عن الفوضى السائدة في المدن ومطارات العالم الثالث، هل يجب أن أندهش لأنني لم أشعر بصدمة ورعب حين شاهدتُ فيلماً عن اصطدام كويكب بالأرض بل اجتاحتني موجة من الراحة العذبة؟أعتذر لأنني أطرح هذه الأسئلة المتلاحقة. ما زلتُ أنفض عني أثر الاستجواب الذاتي الذي أصبح أسلوب التعبير الشفهي المفضّل لدى تيرينس ماليك.
يسأل الراوي بيت: «متى أصبح التراب مصدراً للحياة؟ ألا يُعتبر الحب أيضاً من صنع الطبيعة؟». يسهل أن ننتقد المشاعر المفرطة والعظات الهامسة التي يطلقها ماليك ومحاولاته التعبير بالكلمات عن لغز الوجود. لكن في فيلم Voyage of Time، لا تعكس حدود حواره إخفاقاً واضحاً بل محاولة صادقة (ولو كانت غير ضرورية دوماً) لمواكبة قوة المؤثرات البصرية التي يستعملها.في Voyage of Time، يستوحي ماليك أفكاره بدرجة معينة من فيلم The Tree of Life (شجرة الحياة) لكنه يحوّلها إلى حالة وجودية على طريقته الخاصة. وكما يحصل دوماً مع هذا المخرج الذي ينتفض ضد المعتقدات الشائعة ويعمل بإيقاعه الخاص، يقدّم هذا المشروع سلسلة من التجارب والاكتشافات المتواصلة.
نسخة مجتزأة
يُعتبر Voyage of Time:The Imax Experience نسخة مجتزأة من فيلم Voyage of Time: Life’s Journey (السفر عبر الزمن: رحلة الحياة) الذي يمتدّ على 90 دقيقة وعُرِض للمرة الأولى خلال مهرجانَي البندقية وتورنتو السينمائيَين.كانت كيت بلانشيت الراوية في تلك النسخة، لكنها استعملت أسلوباً منمّقاً وماورائياً، وتتداخل فيها المشاهد العجيبة مع لقطات معاصرة من أنحاء العالم صُوّرت بطريقة متقطّعة ومفككة، ما يثبت ابتعاد ماليك المتزايد عن واقع الحياة المعاصرة.في البداية، تقترب الكاميرا ببطء من غمامة ويتلألأ التقزح اللوني فيها تحت ضوء نجومها المتعددة، ثم ينفجر بركان خلال الليل ويقذف الحمم التي تزداد صلابة وتتحوّل في النهاية إلى طبقات. تنقسم الخلايا وتتضاعف بوتيرة عنيفة. يتموج قنديل بحر في جو صامت مريب لدرجة أن يشعر المشاهدون بأن تموّجاته تتناغم مع نبضهم الخاص.بعد فترة قصيرة، يخبرنا بيت عن «ترسّخ ظاهرة جديدة في العالم: إنها بدايات الحاجة والإرادة والطبيعة الذاتية». يتسلل شكل من الحياة إلى الشاطئ. تتزيّن الأرض فجأةً بعباءة خصبة من المساحات الخضراء. يظهر بعض الديناصورات لفترة وجيزة وتتفقّد المكان وترتسم على وجوهها معالم الحيرة. لاحقاً يضرب كويكب الأرض وتنتهي الحياة قبل أن تبدأ من جديد، فنقترب من العالم الذي نعرفه... إلى أن نشاهد في لقطة لافتة أول إنسان ينعكس ظله في بركة ماء.ابتكارات مدهشة
في الصور التي التقطها المصور السينمائي بول أتكينز بكاميرات «آيماكس»، من اللافت ألا تعكس المشاهد بكل بساطة براعة فنية أو مهارة في مجال الهندسة الرقمية (مع أن المشرف على المؤثرات البصرية، دان غلاس، يقوم بعمل متقن في هذا المجال). تبرز ابتكارات خيالية مدهشة وغنية ببحوثها ولكنها تحمل درجة من الحساسية والعمق بما يفوق حدود التجارب الملموسة.يمكننا أن نشعر بمستوى الإبداع في لقطة مقرّبة لجراثيم تتحرك داخل خلية (إنها صورة مدهشة لظاهرة التجديد البيولوجي). أُخِذت لقطات الحمم من بركان «كيلوا» النشط في هاواي لتجسيد انفجار بركاني يعود إلى أقدم العصور. لا أعرف كيف جسّد ماليك وهج الشمس ولا أريد أن أعرف.إذا شاهدتَ أياً من أفلام ماليك السابقة، يمكنك أن تفهم على الأرجح جزءاً من المفارقات الأخرى التي يعرضها. ستنهار جنة عدن كي تزدهر أخرى. ثمة رابط وثيق بين الخلق والدمار وبالتالي بين الخلق والتطور.خلال 45 دقيقة، يمكن أن يعطينا الفيلم انطباعاً دائماً بالخلود.