ما بعد الحرب السورية
إذا كان صعباً على المرء أن يقيم الوضع في الأقطار العربية التي تشهد صراعاً دموياً مدمراً، فكيف يستطيع أن يتصور ما ستكون عليه الحال بعد الحرب في هذه الأقطار؟ لكن هي محاولة استشرافية تأخذ بعين الاعتبار أمرين: الأول، إشكالية الزمن، فمتى ستنتهي الحرب؟ ومتى تبدأ مرحلة ما بعد الحرب؟ والثاني، المستجدات التي قد تقع، وتغيير مسار الأحداث فيما يتعلق بالوضع أثناء الحرب السورية المدمرة وبعدها. لقد كانت ولا تزال حرباً محلية إقليمية ودولية في آن واحد، وهي معقدة بحكم موقع سورية الاستراتيجي، وهناك حسابات سياسية وأيديولوجية محلية وإقليمية ودولية تتعلق بالشأن السوري، فسورية قريبة من إسرائيل، وتتدخل فيها قوى إقليمية إيرانية وتركية ولبنانية، وقوى دولية روسية وأميركية وفرنسية، فلا حول لا قوة لمن يقدمون المساعدات الإنسانية للشعب السوري أو لمن يتفرجون على ما يجري وينتظرون ما ستؤول إليه الأوضاع. في يوم من الأيام ستنتهي الحرب الدائرة في سورية، لكن بعد تدمير الدولة والشعب، لتبدأ مرحلة سياسية فيها تسويات داخلية وخارجية لصراع تجار الحروب ومصالحهم.
وإن الذي يحدث في سورية يحدث في مرحلة تاريخية يشهد فيها الوطن العربي أسوأ مراحله من تخلف وانقسام وصراع إثني، فكان فرصة للقوى وأصحاب المصالح أن تشعل حروباً أعادت العرب مئات السنين إلى الوراء. فلم يكن أحد يتصور أن تنبعث صراعات إثنية طائفية وعنصرية في أقطار المشرق العربي بعد التطور الذي شهدته في النصف الأول من القرن العشرين، ونعرف أن البعض له ملاحظات سلبية على ذلك التطور، لكن القضية نسبية عند المقارنة بين أوضاع هذه الدول قبل موجة الصراع والحروب وأثناءها، وما ستكون عليه بعدها. وخطر التقسيم قائم وقادم، كما أن خطر استمرار الصراع والتآكل قائم وقادم، وخطر إسرائيل قائم، ولا يمكن أن نتصور انتهاء الحرب دون تحقيق مصالح القوى التي تدخلت فيها إلا في حالة تدمير تلك القوى، ولذلك لإسرائيل حساباتها، وكذلك لإيران وتركيا وحزب الله اللبناني وروسيا وأميركا، والقوى المؤثرة في الأحداث وفي ميزان القوى ستتغلب على غيرها، وستكون لها الحصة الأساسية، ولا نقول حصة (الأسد). والمراهنة النظرية على متغيرات إقليمية ودولية تكون لمصلحة سورية وهمٌ ونتيجةٌ لحسابات خاطئة، مثل الذي يراهن على صراع إيراني داخلي وانكفاء على الداخل، وعلى سقوط حكم الإخوان المسلمين في تركيا، أو انتهاء نشاط حزب الله اللبناني وتحوله إلى قوة سياسية، أو اتفاق أميركي روسي حول المصالح الاستراتيجية والاقتصادية، أو تعايش إسرائيلي مع محيطها العربي، كل تلك الأفكار غير واقعية، ونرجو أن نكون مخطئين في تقديرنا، ويحدث عكس ما نراه وما نتوقعه، فقد أصبح صعباً فهم ما يجري! من قراءة متأنية للتاريخ الحديث والمعاصر فإن أسباب الصراع والضعف والتخلف قائمة ولا تزول في وقت قصير، وإن الحداثة التي بدأت في دولنا العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وقبل ذلك، هي اليوم بعيدة عن واقعنا ومستقبلنا. وندعو المفكرين والمثقفين العرب إلى التحرك والإفاقة من سباتهم الطويل للتفكير الاستراتيجي، وبلورة رؤية لمستقبل هذه الأمة، فهذه الدول التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي وغيرها قد تحولت إلى عصابات وميليشيات تحارب بعضها، ويستعين بعضها بالخارج في صراعها الداخلي، ومافيا الحروب مستفيدة من هذا الصراع لكن إلى متى؟ قلنا إن ثورات الربيع العربي قد تقدم حلاً، لكنها تحولت إلى خريف عربي، وانتكست معظم تلك الثورات! ثم ماذا بشأن ما يحدث، وماذا بشأن ما بعد الحرب في سورية؟ هذه هي الحلقة العربية المفرغة في سورية وفى غيرها، لكن ملامح المرحلة توحي بخريطة جديدة اجتماعياً وسياسياً تنتظر سورية وغيرها في المشرق العربي.