تعقد ألمانيا في العام المقبل انتخابات فدرالية، وسيختار البرلمان الجديد المستشار القادم للبلاد، وسواء احتفظت أنجيلا ميركل أو لم تحتفظ بمنصبها- في الوقت الحالي لا تبدو أحوالها أو أحوال حزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، على ما يرام- فإن الشيء الوحيد المؤكد هو أن من يشغل منصب مستشار ألمانيا لن يكون مستشار أوروبا بحكم الأمر الواقع، كما كانت الحال من قبل، وسيغير هذا بشكل عميق الكيفية التي تعمل بها أوروبا، وسيكون بعض هذا التغيير إلى الأفضل، لكن الارتباك قد يكون شديدا وبغيضا.

لم يكن من المحتم أن يَدَّعي المستشار الألماني لنفسه كل هذا القدر من السلطة على الاتحاد الأوروبي، بل كان المستشار السابق هيلموت كول هو الذي فَرَض هذه الحال، فبعد إشرافه على إعادة توحيد شطري ألمانيا في الفترة 1990-1989، بدأ كول ملاحقة ما اعتبره مهمة تاريخية تمثلت بتوحيد أوروبا أيضا، وقاد كول أوروبا من الاتفاق على معاهدة ماستريخت في عام 1991 إلى القرارات الحاسمة حول شكل عملة اليورو في عام 1998.

Ad

وكان مفهوم العملة الأوروبية الموحدة سينزوي في طي النسيان عِدة مرات خلال هذه السنوات، ففي عام 1994 أكَّدَ مساعد كول الوثيق فولفغانغ شويبله، الذي يشغل الآن منصب وزير مالية ألمانيا، أن خمس دول فقط- ليس من بينها إيطاليا- كانت مستعدة لتبني العملة الموحدة، لكن كول لم يكتف بهذا، فأصر على ضم إيطاليا.

ثم تبنى غيرهارد شرويدر، خليفة كول، نهجا مختلفا تمام الاختلاف، فمع افتقاره إلى أي ذكريات شخصية من الحرب العالمية الثانية، كان شريودر- مثله كمثل حصة متزايدة من الألمان في ذلك الوقت- على يقين من أن ألمانيا قادرة على الاعتماد على نفسها، من دون التأكيد باستمرار على العلاقات التي تربطها بأوروبا.

وقد سعى شرويدر بنشاط إلى تحقيق مصالح ألمانيا الوطنية، فانتقد البنك المركزي الأوروبي عندما أبقى أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة للغاية، وتحدت حكومته قواعد أوروبا المالية، التي وصفها بدقة رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك رومانو برودي بأنها "غبية". وكاد الاقتصاد الألماني يتوقف تماما، وكان المزيد من التقشف سيفضي إلى المزيد من الضرر، وربما لفترة طويلة. وكاد شرويدر يقوض قواعد الاستحواذ على الشركات في الاتحاد الأوروبي لحماية شركة فولكس واغن، وكانت بادرته الوحيدة "المؤيدة لأوروبا" عندما وافق على التحاق اليونان بعضوية منطقة اليورو.

في وقت مبكر من ولايتها التي بدأت في نوفمبر 2005 بدت ميركل وكأنها أقرب شبها إلى شرويدر من كول، وكان سنها أصغر كثيرا من شرويدر، وقد نشأت في ألمانيا الشرقية، وكانت أقل اتصالا بأهمية "أوروبا ما بعد الحرب"، زمنيا ومكانيا، ومن منطلق شعورها بعدم الاضطرار إلى تقديم أوراق اعتمادها باعتبارها "مؤيدة لأوروبا" على نحو مستمر، فكانت راضية بالخدمة كمستشارة ألمانيا ببساطة.

في البداية، كان ذلك النهج ناجحا إلى حد كبير، وكانت الاقتصادات الأوروبية- بما في ذلك ألمانيا- تمتطي فقاعة اقتصادية ومالية عالمية عملاقة، ورغم أن كل الدول تقريبا التفّت حول القواعد المالية، فقد اعتقد الأوروبيون أن اليورو يغذي النمو الاقتصادي ومن شأنه أن يقودهم في نهاية المطاف إلى الوحدة السياسية. الأمر ببساطة أن أوروبا لم تكن في احتياج إلى مستشار.

ثم تغير كل هذا مع الركود الاقتصادي العالمي بعد عام 2008، والذي كشف عن نقاط الضعف في بنية الاتحاد النقدي، وزيادة على الأضرار الناجمة عن المِحَن التي يعيشها الاقتصاد العالمي وجدت منطقة اليورو نفسها في مواجهة إفلاس الحكومة اليونانية الوشيك، وبحلول مارس 2010 بات من الواضح أن الأزمة اليونانية لن تُحَل من تلقاء ذاتها، وبدأت ميركل، ببطء ولكن بخطوات واثقة، تمسك بزمام الأمر.

ولم تستسغ ميركل هذه المهمة، بل على العكس من ذلك كانت تمارس عملها على افتراض أن اليورو "آلة من الجحيم"، حالة من الفوضى وعبء مفروض عليها وعلى بلادها، ولكن لم يكن أمامها مجال كبير للاختيار؛ فكلما نشأت ضرورة لاتخاذ القرار بشأن إدارة أزمة كبرى، كانت كل الأنظار تتحول نحوها.

تصرفت ميركل وكأنها مستشارة لأوروبا، ولكنها أبقت المصالح الألمانية نصب عينيها دائما، فقد أدركت أن عامة الناس في ألمانيا لن يتسامحوا مع إنفاق ضرائبهم على أوروبا، ولمس الإنفاق على اليونان وترا حساسا بشكل خاص. وعلى هذا فقد لبت ميركل الحد الأدنى، ما يكفي لمنع الانهيار وحسب، ولكنه أقل كثيرا من أن يضع حدا لأزمة اليونان أو أزمة اليورو في عموم الأمر. ونتيجة لهذا ظلت الأزمة تتطور وتتخذ أشكالا جديدة، بما في ذلك، وعلى نحو أشد خطورة، في القطاع المصرفي في إيطاليا، أو "خط الصدع في أوروبا".

في أواخر عام 2011 صممت ميركل عملية الاستعاضة عن الحكومات المنتخبة بالتكنوقراط في اليونان وإيطاليا، ولم يكن أحد سعيدا بهذا، واكتسبت حركات الاحتجاج السياسية المزيد من القوة في كل مكان، بما في ذلك في ألمانيا، حيث وُلِد في فبراير 2013 حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المناهض لليورو.

اتخذت ميركل موقفا مبدئيا بشأن أزمة اللاجئين، فقبلت أكثر من مليون لاجئ إلى ألمانيا، ولكنها فعلت هذا من دون استشارة شركائها الأوروبيين أو حتى مواطنيها، وسرعان ما عوقبت داخل بلدها، فمؤخرا عانى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي من سلسلة من الخسائر المهينة في انتخابات الولايات، في حين حقق حزب البديل من أجل ألمانيا مكاسب كبيرة.

في الوقت الراهن، تحافظ ميركل على دورها كمستشارة لأوروبا بحكم الأمر الواقع، لأنه لا يوجد بديل ببساطة، فلا يزال رئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي يسعى إلى الاستعانة بميركل عندما يريد "المرونة" في التعامل مع قواعد الميزانية، وكانت أول زيارة خارجية رسمية تقوم بها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى برلين.

ولكن ألمانيا وأوروبا تتغيران، فقد كانت المكاسب الأخيرة التي حققها حزب البديل من أجل ألمانيا راجعة إلى تحريك المشاعر المعادية للأجانب، وحتى إذا استمرت ميركل كمستشارة ألمانية بعد انتخابات العام المقبل، فسيكون دعمها أضعف كثيرا، ومن ناحية أخرى يظل الاقتصاد الأوروبي في حالة احتضار، ويهدد خط الصدع الإيطالي بإرسال موجات الصدمة إلى مختلف أنحاء أوروبا، كما تبددت الثقة بالمؤسسات الأوروبية، وتآكلت الروابط التجارية بين دول أوروبا كما كان متوقعا، ويبحث المصدرون عن أسواق أسرع نموا في آسيا والولايات المتحدة.

الواقع أن مستشار ألمانيا المقبل، أيا كان، لن يحظى بدعم ألماني ولا قبول أوروبي إذا رغب في العمل كمستشار أوروبي، وقد تكون الضحية الأولى اليونان، التي ربما تضطر أخيرا إلى الخروج من منطقة اليورو، بدلا من تخفيف عبء الديون عنها، وهو ما لم توفره ميركل، وهو ما من شأنه أن يدفع الاتحاد الأوروبي بأسره إلى منطقة مجهولة.

ولكن النتائج قد لا تكون كلها سيئة، فمع غياب من يتولى المسؤولية، يصبح من الأسهل تجاهل القواعد المالية "الغبية"، وقد يشكل هذا التوسع في السيادة الوطنية تطورا إيجابيا، إذا ما أدى إلى ما يسميه لاري سامرز من جامعة هارفارد "القومية المسؤولة"، وسيكون لزاما على حكومات منطقة اليورو أن تخدم مواطنيها بدلا من التشبث بمثالية أوروبية مجردة، مع العيش في ظل انضباط صناديق الاقتراع والسوق، أما وجود مستشار أوروبي ألماني فلن يُفضي إلا إلى المزيد من تمزيق أوروبا.

* أشوكا مودي | Ashoka Mody ، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي الأسبق إلى ألمانيا وأيرلندا، وهو أستاذ السياسة الاقتصادية الدولية الزائر لدى كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»