من الأوجه الغريبة في الانتخابات الأميركية الحالية تمحور الصراع في السياسة الخارجية حول قبول واقع أن العالم تبدّل منذ ابتكار وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت عبارة "أمة لا غنى عنها" قبل 18 سنة أو رفضها.خضعت الولايات المتحدة ودورها العالمي لتغيير جذري خلال السنوات الثماني عشرة تلك، ويشكّل "عالم المشاريع المشتركة" مرادفاً لمفهوم المشاريع المشتركة في قطاع الأعمال: شراكات عملية تتشارك فيها شركات عدة (تكون أحياناً متنافسة) في استثمار يعود عليها كلها بفائدة كبيرة، فتقدّم جميعها الأصول وتتشاطر المخاطر، فقد وُلد عالم المشاريع المشتركة من الاعتماد الاقتصادي العالمي المتبادَل بين الدول، مما بدّل مفهوم السيادة التقليدي.
عندما كانت إنكلترا في ذروة قوتها العالمية عام 1848، أعلن وزير الخارجية البريطاني اللورد بالمرستون في خطاب ألقاه أمام البرلمان أن بريطانيا "لا تملك أي أعداء أبديين أو أعداء دائمين، بل مصالحنا هي الأبدية والدائمة". واعتُبرت كلمات بالمرستون هذه طوال السنوات المئة والثماني والستين الماضية أحد التصريحات الأكثر تأثيراً في طريقة عمل قوة واحدة على حماية مصالحها حول العالم.لكن كلماته هذه ما عادت تُطبَّق اليوم، فإن كان الهدف إدارة عالم معولم ومترابط، يصبح ضيق أفق تصريح بالمرستون قديماً قدم "النزعة التجارية" (mercantilism).ولا شك أن كل بلد يعمد، مع نشوء أوضاع محددة، إلى التصرف وفق ما يرى فيه مصلحته، لكن أوجه الاختلاف بين أمم المشاريع المشتركة العالمية تنقسم اليوم إلى محورَين: أولاً، لا تقتصر المصلحة الشخصية على نجاح بلدك، بل تشمل أيضاً نجاح شركائك وتمتعهم بالخير الاقتصادي، سواء شمل الصين، أو ألمانيا، أو اليابان. ثانياً، وعلى القدر ذاته من الأهمية، يقوم النجاح على استقرار النظام، فيشكّل الاستقرار أساساً مهماً وواضحاً، ومن دونه لا يستطيع أي تحالف اقتصادي أو سياسي أن ينجح وينمو، ولا شك أن غياب الاستقرار في أي جزء من النظام يهدد العالم بأسره.ولكن هل يستطيع الشعب الأميركي، الذي سمع باستمرار منذ عام 1945 أن الولايات المتحدة القائد الوحيد للعالم الحر، والذي أسس جزءاً من شخصيته الخاصة على هذا المفهوم، أن يتقبّل اليوم حاجة العولمة إلى علاقات دولية أكثر ترابطاً وتدخُّلاً؟ أم أن هذا سيبدو مخيفاً ومحقِّراً في آن واحد؟ما عادت البيئة الجيوسياسية الحالية، التي لا شكل محدداً لها والتي تسودها الفوضى، تحتاج إلى قائد عالمي واحد، بل إلى شريك مسؤول يوجّه ويعزز الاستقرار داخل النظام، شريك لا غنى عنه في نظام يقوم على شبكة من العلاقات المترابطة.ولكن على الصعيدين السياسي والثقافي، هل تنجح الولايات المتحدة، التي قامت تجربتها على الهيمنة، في تكييف دورها وتبديله لتصبح شريكاً لا غنى عنه في عالم المشاريع المشتركة المعولم؟ أم أن الدقة والمهارة الضروريتين لقيادة عالم مترابط متعدد الأقطاب صارتا بعيدتين عن متناولنا كثقافة؟ خلال عهد أوباما بدأت سياستنا الخارجية، بغض النظر عن بعض الفجوات، بالتكيّف مع نموذج المشاريع المشتركة. لكن السؤال الذي ينشأ اليوم: هل يقبل الشعب الأميركي، الذي يشكّل منبع السياسة الخارجية ومتلقيها في آن واحد، المضي قدماً بسياسة خارجية ترتكز على الواقعية الاقتصادية؟ وهل يدرك أن الولايات المتحدة، بتراجعها عن دور "الأمة التي لا غنى عنها"، لا تعرب عن ضعف، بل العكس تُظهر فهماً واضحاً لقيود عالم المشاريع المشتركة المعولم وفرصه؟ أم أن الشعب الأميركي، الذي يخشى التبدلات الاقتصادية والتكنولوجية الحادة التي حملتها العولمة، سيطالب بعودة السياسة الخارجية إلى وجهة النظر العالمية التقليدية عن الرجل الصالح أو الرجل السيئ؟Edward Goldberg إدوارد غولدبيرغ
مقالات
هل الولايات المتحدة حقاً دولة لا غنى عنها؟
18-10-2016