إن الغرب سيتحول حتما إلى الإسلام، وسيكون هناك تغيير في التوازن الدولي الحالي، وسيعود المسلمون كذلك إلى دينهم، وسيأخذ هذا الجيل الطاهر والمضحي، كما يتنبأ الداعية غولن "ضمن التوازن الدولي الجديد". ويضيف "ليس هذا بالشيء المستحيل... سيتحقق هذا بالتأكيد، بل لقد بدأ فعلا بالتحقق، فرجال الفكر في الغرب الآن مذهولون من سحر الإسلام وشبابه الدائم، ويبدو أن هذا سيكون سببا في تغييرات كبيرة، وليس من المستبعد حدوث تغيرات اجتماعية كبيرة في المستقبل القريب، وستكون هناك تغيرات في خريطة العالم".

ويحتاج هذا كله إلى فهم إسلامي جديد وجهود جبارة من الدعاة "الذين وجدوا أنفسهم وشخصيتهم وهويتهم الحقيقية، وليس العاجزين والفاشلين الذين يؤجلون العمل في هذا السبيل إلى أوقات فراغهم".

Ad

غير أن العالم الإسلامي لا يزال، كما يرى "غولن"، أبعد الكتل العالمية عن متطلبات الاجتذاب الإيماني والاستقطاب الديني القادر على الاستجابة للاندفاع نحو الإسلام في الغرب، فيقول: "إن العالم الإسلامي لم يلم شمله ولم يرجع إلى نفسه بعد، ولم يمثل الإسلام في حياته، ولا يزال متسولا عند أعتاب الغرب، لذا فطالما كان هذا العالم الإسلامي مغلوبا المرة تلو الأخرى بالضربة القاضية، وطالما بقي أسيرا ومتسولا ومتمسحا بأعتاب الغرب، وخائفا من الغرب، ومرتجفا منه، فلن يكون هناك أي احتمال لأن يعيرك الغرب سمعه أو يهتم بالرسالة التي تحملها، ولكن إن كنا في مستوى شخصية أسلافنا وعزتهم ومثّلنا الإسلام بما يليق به من رفعة، وطرقنا أبواب الغرب بهذه الهوية فإنه سينصت إلينا وسيهتم بنا وسيقبلنا. لا أقول إنهم محقون في عدم القبول، فإن مسؤوليتنا نحن في عدم تمثيل الإسلام بالمستوى اللائق أكبر". (ص119-120).

«حرية الدعوة»... لنا فقط!

ويلفت نظر معظم القراء ولا شك إعجاب الداعية "غولن" بتسامح المسيحيين والعلمانية الغربية بالوعظ الإسلامي في كنائس هولندا وألمانيا، وانتشار المساجد والجمعيات الإسلامية في عواصم المشرق البوذي الهندوسي، والمغرب المسيحي اليهودي، وعدم اهتمامه من جانب آخر بتعصب المسلمين ضد أي مظهر أو كتاب أو معبد أو حتى موظف في دائرة، إن كان على غير دين الإسلام. والواقع أن الداعية "غولن" يدفع عن نفسه وأتباعه تهم الجمود والتكفير، فيقول "نحن بعيدون جدا عن عقلية الذين يصدرون أحكاما غير متوازنة، ويرون أن جميع من يعيش في البلدان الأجنبية هم حطب جهنم. كما نحن بعيدون جدا عن عقلية الذين يتوقعون أنهaم ما إن يعرضوا الإسلام بشكل ناقص وغير لائق- كما عليه الأمر اليوم في اعتقاد الداعية- حتى يقبل عليه الجميع من كل حدب وصوب، فهذا خيال ووهم".

فضل نصارى الغرب!

ولكن "غولن" لا يشير أدنى إشارة إلى الحقوق المقابلة للمسيحيين أسوة بالمسلمين، فأوروبا فيها بعض من لم يعد مقتنعا بالمسيحية أو اليهودية، ويود التحول إلى الإسلام، كما نرى في الكثير من الحالات، ولكن الدعاة للأسف لا يشيرون أبدا إلى المسلمين في العالم الإسلامي والبلدان العربية الراغبين في أن تكون أنظمتهم مثل أوروبا وأميركا أنظمة محايدة وعلمانية ومحترمة لاختيار حريات مواطنيها في مجال الدين والمذهب. ولا يتحدث الدعاة عن لجوء بعض المعارضين الدينيين المسلمين بعد تزايد الخطر على حياتهم في دولهم ومجتمعاتهم بعد أن أبدوا آراء دينية مخالفة للأغلبية الإسلامية. ولا يبدو في كتابات ومواعظ "غولن" أي تعاطف أو تسامح مع المسيحيين في أوروبا وتركيا أو أي مكان في العالم الإسلامي، رغم انتشار مدارسه ومؤسساته في كل مكان، والحرية التي تتمتع بها في شتى الدول، وبين أتباع مختلف الديانات.

ويبدو الداعية غولن مشدوهاً منبهراً بالحضارة الإسلامية ودور المسلمين وفضلهم على الحضارة الغربية، ولكنه لا يلتفت أبدا إلى الأفضال العظيمة للغرب على المسلمين في زماننا هذا، بل يبدو متناقضاً كل التناقض! فهو كسائر الإسلاميين، ينظر باستعلاء واحتقار إلى "حضارة الغرب المادية" أو "الجاهلية"، كما يعتبرها الأَخَوان "قطب" مثلا، وفي الوقت نفسه يلومون الغرب لأنه "عرقل تقدم العالم الإسلامي"، ومنع ارتقاء دولهم"، وحرص على دوام تخلفهم، بدلا من أن يشكروا الغرب، إذ منع عنهم "التلوث الحضاري"!

وفي حين لا يجد "غولن" لدى الماديين الغربيين ما يضاهي روحانية تياره وأتباعه وأفكاره، ويعتبر سيد قطب والإخوان، وهم بعض أساتذة "غولن"، الحضارة الغربية مفلسة خالية مما يفيد البشرية والمسلمين، بل يرونها خرائب وركاماً، نرى "البدائل الإسلامية" التي تعرضها التيارات والجماعات الإسلامية، وتنتجها الشركات الإسلامية، تسيرها القيم والأهداف نفسها، وخير شاهد في هذا المجال ما يسمى بالمؤسسات والمصارف الإسلامية، والشركات العقارية وغيرها.

ولم نسمع حتى الآن بأي ثري مسلم أو ملياردير إسلامي يهب ثروته للإنسانية كما فعل بعض رجال الأعمال الكبار في الولايات المتحدة ودول الغرب، الموصومة بين الإسلاميين والمسلمين عموما "بالجشع والأنانية والانكباب على الدنيا والماديات"! ألا تستحق هذه الظاهرة والمفارقة مثلا... "وقفة إسلامية" من التي كثيرا ما نسمع بها؟

السلطان عبدالحميد الثاني

ومن عجائب فكر الداعية غولن "عداؤه للغرب والحداثة، وتقديسه السياسي للخليفة العثماني عبدالحميد الثاني الذي انقلب على الدستور، وأوقف مسيرة كانت ستؤدي حتما إلى تطوير الدولة العثمانية والعالم الإسلامي، لو سمح الخليفة بتحديث مؤسسات الدولة والثقافة والحياة الاجتماعية، كما فعل اليابانيون مثلا بعد "ثورة الميجي" في القرن 19 ولكنه مثل الداعية "غولن"، رفض التغيير، واعتبر التجديد مؤامرة غربية نصرانية يهودية ماسونية... فكادت تركيا نفسها تضيع بسبب عناد هذا السلطان ومن جاء بعده من المعادين للتحديث السياسي كما ذكرنا. يقول "غولن" معاتباً دول الغرب، وكذلك الأنظمة الحليفة له في العالم الإسلامي، فقادة هذه الأنظمة هم "الذين أبعدونا عن الإسلام ووعدونا بأنهم سيصلون بنا إلى حياة في مستوى المدنية الغربية، ولكن على الرغم من مرور 150 عاماً، على هذا الوعد لا نزال نتسول على أبواب الغرب، ولم يحدث أي تغيير، ولم نتقدم خطوة واحدة، واستمر الغرب في نظره إلينا كخدام عند عتبة بابه".

(أسئلة العصر المحيرة، ص119).

ولكن قد يقول قائل: لقد ترك الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والبلجيكي والهولندي وغيره العالم الإسلامي منذ سنين طويلة، فلماذا لم نتقدم؟ ولماذا لا نحاسب أنفسنا بدلا من أن نكيل السباب للنصارى واليهود والماسونية والغربيين والشرقيين؟

إن أهم الخطوات في تحديث العالم الإسلامي اليوم مثلا، من إندونيسيا إلى المغرب، و"من نواكشوط إلى الكويت"، كما تقول إذاعة BBC العريبة، هي تحديث التعليم وعصرنته وتحريره.

فهذا ما أقدمت عليه دول آسيا الناهضة في الشرق مثلا، ولكن هل ثمة من يجرؤ من الساسة أو التربويين العرب والأتراك والإيرانيين والباكستانيين والإندونيسيين، على الاقتراب من التعليم العام والمناهج والجامعات والثقافة، دون أن يشعل الإسلاميون المظاهرات والثوارت ضد "التغريب"، ودفاعا عن "الهوية"؟

أليس ما يقوم به الداعية "غولن" في تركيا والإسلاميون في العالم العربي، وفرق حزب الله في إيران، وجماعات الجهاد وطالبان في أفغانستان وباكستان وغيرها، "وتداعي علماء الأمة" للتصدي لكل فكرة جديدة في أي مجتمع إسلامي، وفي أي حقل وميدان... بعض أسباب التخلف والجمود في بلداننا؟ أليس في مقدمة ما تعانيه مجتمعات العالم العربي والإسلامي، الشعبوية الفكرية والسياسية، والغوغائية العشائرية والطائفية والدينية، وتهديد صاحب كل فكرة جديدة بالطرد والقتل، وهي شعبوية تؤدي في النهاية إلى سكوت المبدعين وخوف المجددين وهجرة المصلحين؟

وتؤدي كذلك إلى بروز الزعامات المستفيدة والقيادات الفاسدة والشخصيات المتاجرة بالدين أو المتعصبة للكثير من الأفكار التي لا تناسب العصر؟

كيف نستفيد من الغرب إذاً؟

وإذا كانت مفاتيح التقدم والتحديث والوصول إلى الصفوف المتقدمة بين الأمم بيد أوروبا وأميركا والغرب، كما يقول الإسلاميون أنفسهم أو بعض عقلائهم على الأقل، فكيف يمكن للدول الغربية بمؤسساتها السياسية والثقافية والاجتماعية القائمة على الديمقراطية والعلوم الحديثة والليبرالية والعلمانية، واعتبار الدين والعقيدة مسألة فردية لا سياسة دولة وحزب أو مرتكز للعلاقات الدولية، كيف يمكن لدول الغرب هذه أن تتفاهم أو تنسق مع دول ومجتمعات كهذه التي يحلم بها دعاة تركيا والعرب وإيران وباكستان؟ ثم هل سنكون حقاً أحسن حالا وأكثر استقراراً، إن ترَكَنا الغرب وشأننا، وقام بتجاهلنا تماماً؟ هل نحن قادرون على التصدي للإرهاب والفقر والمشكلة السكانية وندرة المياه وتردي الخدمات؟

لا أعرف محتوى مناهج كتب التاريخ والسياسة والدين والأدب في مدارس "فتح الله غولن"، وطبيعة تفكير خريجيها، ولكنها على الأرجح لن تخلتف كثيرا عما نرى ونقرأ ونسمع من غيرهم منذ فترة طويلة.. في العالم الإسلامي، وفي مصر وباكستان والكويت

(يتبع غداً)