ما وراء كرَﭬاجيو
في متحف الفن الوطني معرض كبير بعنوان BEYOND CARAVAGIO عن "كرَﭬاجيو" و"الكرﭬاجيين" الذين تأثروا به. ما أغنى العنوان وأشهاه! فأنا مفتون برسام عصر النهضة المبكر هذا، ومفتون بالمقاربات النقدية التي توفرها معارض فنية كهذه، تحفز لديك حاسة النظر إلى ملامح التأثر والتأثير، ومعنى الأصالة والمحاكاة، ومعنى ارتفاع المحاكاة إلى مستوى الأصالة، الذي وفره هذا العرض بصورة وافية. كلُّ شيء لائقٌ برعشة خريف هذه الأيام إذنْ، وهي تحرك أردانَ لندن المبتلة. وفن كرﭬاجيو كفيل بالدفء.كنتُ أتوقع الإضاءات التي تخترق الظلمات بعنف، في لوحة كرﭬاجيو. إضاءة مُضادة، تخرج من أسر العتمة القاهرة. لا رحمة في تعارض كهذا، على خلاف الإضاءة والظلمة في لوحة الهولندي رامبرانت، الذي تألق بعد نصف قرن. مع أسى رامبرانت الرحيم، أو مسراته الرحيمة يخرج الضوء من قلب الظلمة أو الظل ليضيئهما. يبدأ من المركز، ليتسع على الوجوه، والهيئات، والأشياء. لكن ضوء كرﭬاجيو يخرج عنوة من قلب الظلام، يتحداه ولا ينتصر عليه. حاد الحواف كشفرة سلاح. ضوء الروح الحبيسة التي لا سبيل إلى خلاصها. في آخر قاعة لوحةٌ تقدم لك يوحنا المعمدان، بأجمل مظاهر الجسد المشرق الفتي. لكنه يحفز فيك حذراً وخوفاً دفينين. لا لأنك تعرف أن هذا الفتى ينطوي على نبوءات نذيرية، وأنه ينتظر قطع رأسه بأمر سالومي، وأن رأسَه كسيرٌ وعينَه أسيفة فقط، بل لأنك تؤخذُ بانعكاس الصليب على جسده، وفورة ظلال الدغل الغامضة حوله، وما يليها من عتمة. إن إشراق جسده تعبير عن خلاص مؤقت من براثن العتمة المحيطة. هذه العلاقة الدامية بين الضوء والظلمة لا غنائية فيها، تلك الغنائية التي نستشعرها في لوحة رامبرانت.
في لوحة "القبض على المسيح" تعكس قبلة يهوذا، وانزعاج المسيح، واللباس المعدن للحرس، وذعر الرجل في الخلف، ضربا من الحركة المذعورة داخل شراك العتمة. إن كرَﭬاجيو ممسوسٌ بشراكِ حياةٍ محيطةٍ لا رحمة فيها، ولا حب، ولا ضوء. دفعته بالقوة لأن يلتصق بأدران العالم السفلي، دون تطلعات متسامية عرفتها فنون المرحلة. حتى لوحات القديسين والقديسات، التي يُكلَّف برسمها، كان يُنجزها عن موديلاتِ عاهراتِ وغلمانِ الشوارع الخلفية. إنه أرضي بإفراط، واقعي بطليعية غير مألوفة في مرحلته، ولا المراحل التي تلته. ومن هذه اللمسة الواقعية التي تُشبه الجرح، جاءت قوة تأثيره الكبيرة على الجيل الشاب من فناني مرحلته، والمرحلة القصيرة التي تلته. وما هذا المعرض الكبير إلا تغطية بليغة وغنية للمرحلتين الموجزتين.عاش كرَﭬاجيو حياةً قصيرة نسبياً (1571 - 1610 م). تمرن في ميلانو، وجاء روما وهو في العشرين، بالغ النضج، واضح الرؤية في ميله "الطبيعي/ الواقعي" في الرسم. عنصر الدراما في لوحته لا يقتصر على معترك الضوء والظلام، بل يتسرب إلى كل جزء في اللوحة: حركة الأجساد، الأذرع، التفاتة الرأس، تعابير الوجه، علاقة الشخوص ببعض، الموضوع الذي لا سكينة فيه، ولا تسامٍ، بل مستوحى بجرأة من الحياة اليومية المبتذلة. هذه العناصر الطبيعية هي التي استثارت الفنانين الشبان في مرحلته، وصاروا يتأثرون به ويحاكونه، حتى شاع مصطلح "الكرﭬاجية" و"الكرﭬاجيون" بينهم. الرسام الرائع جيوﭬاني باﮔليوني لم يفلت من تأثيره، رغم أنه يكبره سناً. كتب عنه سيرة حياته، لكنه ناصبه العداء فيما بعد. فنانون من هولندا، فرنسا وإسبانيا جاءوا روما رغبة في الاطلاع على أعماله، ومحاكاته.كانت شخصية كرَﭬاجيو سيئةَ الطبع، نزاعةً للإثارة والعراك. السلاح الذي يحمله ليس للزينة أو المهابة، ولقد طعن به أحداً، وقتله. هرب جريحاً من روما عام 1606، إلى نابولي، ثم بعدها إلى صقلية. وعبر تشرده الطويل كان يفقد قواه ببطء، حتى عاد إلى روما ومات فيها. ولم تتواصل سمعته، ولا تأثيره على الأتباع والحواريين، لأكثر من عشرين سنة بعد وفاته. ثم غرق، هو وتوجهه الطبيعي، الواقعي، فجأة في النسيان. ولم يستيقظ، ويعود إلى الحياة من جديد إلا مع مطلع القرن العشرين.