ثار جدل كبير بمناسبة مرور 100 عام على اتفاقية "سايكس بيكو" التي تمت بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني السير مارك سايكس، وبمصادقة من الإمبرطورية الروسية على اقتسام الإمبرطورية العثمانية في منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، وذلك في التاسع من مايو 1916، وعلى امتداد الشهور السابقة إلى اليوم، تحفل الصحف العربية بالعديد من المقالات حول هذه الذكرى التي يصنفها البعض بـ"الوثيقة المروعة" لأنها هي التي قسمت بلاد الشام إلى دول قطرية، ورسخت الدولة الوطنية القطرية المعوقة للوحدة العربية. لطالما هجا الأمميون العرب، بتياراتهم الثلاثة: القومي والإسلامي واليساري، اتفاقية "سايكس بيكو"، بوصفها معول التقسيم وأداة التجزئة والتفتيت للعالم العربي، وسال المداد أنهاراً في بكائيات لا تنتهي إلى اليوم، في لعن الاستعمار الذي قسم البلاد العربية وفق سياسة "فرّق تسد" حتى يضمن استمرار تبعية البلاد العربية، وعدم قدرتها على النهوض والتقدم، وحتى يضمن ديمومة مصالحه، فالمناهج الدراسية حفلت بهذه البكائيات، والخطب الدينية والسياسية على امتداد نصف قرن، وهي تشكو وتحمل مسؤولية التقسيم، هذه الاتفاقية الملعونة، أو "الخطيئة الأصلية" في كل معضلات الشرق الأوسط.
الأمميون بكل طوائفهم وفرقهم صوروا للناشئة خاصة وللعرب عامة أنه لو لم تكن هذه الاتفاقية لكانت الوحدة العربية متحققة ومزدهرة! ولما كان حال العرب اليوم من تفتيت وتمزيق وفوضى واضطرابات وطائفية وإرهاب وقتل، أي أن هذه الاتفاقية هي المصدر الأساسي لكل مآسي العرب اليوم... دعونا نناقش هذه الفكرة بموضوعية ومن منطلق عقلاني ومعرفي بعيداً عن التسييس والأدلجة: هل حقاً اتفاقية "سايكس بيكو" هي التي عوّقت وحدة العرب؟ في تصوري، وبحسب المعطيات المعرفية التاريخية، أن كل ذلك وهم، ومبرراتي في ذلك ما يأتي:أولاً: إن نقطة البداية الخاطئة التي انطلقت منها كل الدعوات الأممية (القومية والإسلامية واليسارية) تصور أن العالم العربي كان موحداً قبل اتفاقية "سايكس بيكو"، وأن الاستعمار هو الذي جزأه، هذا غير صحيح تاريخياً، إذ لم يكن العالم العربي موحداً من قبل، بل العكس هو الصحيح، وعلى مر التاريخ الإسلامي وعلى الدوام، ظل العالم العربي مقسماً، وحدوده متباعدة جغرافياً، بين دويلات متحاربة، وقبائل متنازعة أو إثنيات متصارعة وطوائف متناحرة، لا لم يكن العرب متوحدين قبل "سايكس بيكو"، بل إن الدولة القطرية العربية هي أول محاولة أو تجربة في وحدة القبائل والطوائف والإثنيات في دولة مركزية واحدة، كما وثقها المفكر البحريني الكبير د. محمد جابر الأنصاري، وكما خلص إليها المفكر القومي الكبير زريق فيما بعد في مقالة له في الحياة اللندنية في 2008/4/28 حيث أكد: أن القوميات في الغرب ما نشأت إلا بعد معارك وثورات هائلة، أما عندنا حيث المجتمعات خالية من الممهدات لنشوء القومية، فقومياتها مجرد أحلام.ثانياً: إن مفاعيل "سايكس بيكو"، إنما اقتصرت على جزء صغير من العالم العربي، فماذا عن بقية المنطقة العربية التي انقسمت إلى دول؟!ثالثاً: إن الحدود الجغرافية التاريخية، سبقت "سايكس بيكو"، بأزمان طويلة، منذ العصر الأموي فالعباسي فالعثماني، وهي وليدة عمليات تاريخية طويلة ولم تكن نتيجة "سايكس بيكو".رابعاً: إن "سايكس بيكو"، لم تقسم الهلال الخصيب من فراغ، وإنما عبر موازين واعتبارات لقوى سياسية وعسكرية وعشائرية وقبلية... إلخ.خامساً: إن مسؤولية هذا التقسيم لا تقع على الفرنسي والبريطاني والروسي، وحدهم، بل هناك أطراف عربية مسؤولة أيضاً.سادساً: الحدود المرسومة، هي حدود طبيعية مرتبطة بتطورات تاريخية بعضها يعود لآلاف الأعوام مثل مصر أو لمئات السنين مثل المغرب، وما حصل في البلاد العربية، حصل في كل دول العالم، تعبيراً عن خطوط جرى رسمها ثم خلقتها الجيوش وربحية التجارة وفاعلية السياسة وتوازنات القوى (عبدالمنعم سعيد: مولد سيدي سايكس بيكو). سابعاً: كان بإمكان الذين جاؤوا بعد المستعمر وحكموا، أن يعيدوا الأمر إلى ما كان عليه، أو يقيموا وحدة... فلماذا لم يفعلوا؟! بل إنهم خلال 100 عام زادوا المنطقة العربية تقسيماً وتفتيتاً وتجزئة. * كاتب قطري
مقالات
«سايكس بيكو» ومسؤولية التجزئة
24-10-2016