الزمن الرديء
في سنوات سابقة، ليست بعيدة، كان انقسام العرب انعكاساً لأن هناك معسكرين كونيين، معكسراً غربياً إمبريالياً ومعسكراً شرقياً تقدمياً، وهكذا فإن الدول العربية التي كانت تُعتبر "رجعية" كانت تحسب نفسها ويحسبها الآخرون على المعسكر الغربي، بينما دول الانقلابات العسكرية التي كانت تعتبر نفسها تحررية وتقدمية كانت تُحْسب على المعسكر الشرقي (الاشتراكي) الذي بقي الاتحاد السوفياتي يقوده، إلى أن انهار. ولذلك فقد كان بين العرب "التقدميين" والعرب "الرجعيين" ما صنع الحدَّاد، وكان الصراع بينهما قد وصل إلى حد الاقتتال الفعلي، وهذا كان قد حصل في اليمن بين السعودية ومن كان معها مثل الأردن، وبين مصر (الجمهورية العربية المتحدة) ومن كان معها مثل سورية، وأيضاً كان قد حصل بين الجزائر التي كانت قد اجترحت استقلالها تواًّ والمغرب، وحصل كذلك بين اليمن الجنوبي بعد انفكاكه عن بريطانيا المستعمرة وسلطنة عُمان التي كانت قد اسُتهدفت في وحدتها من خلال اختراع ثورة أعطيت اسم "الجبهة الشعبية لتحرير ظفار" ساندها الاتحاد السوفياتي والعرب "التقدميون"!
لقد كانت هذه سمة الصراع العربي – العربي في تلك الفترة التي انتهت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد "اندثار" وانتهاء صراع المعسكرات وفقاً لمعطيات تلك الحقبة وذلك الوقت، لكن ما كدنا نبدأ في تنفس هواء نقيٍّ ونحلم، لا بوحدة عربية من المحيط إلى الخليج بل بسوق عربية مشتركة كالسوق الأوروبية المشتركة التي انتهت بقيام هذا الاتحاد الأوروبي، حتى داهمنا كل هذا التشظي العربي الذي بدأ باندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، وقبل ذلك، بعدما اختارت مصر، عقب حرب أكتوبر العظيمة، بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، الصلح مع إسرائيل، وكل هذا إلى أنْ اندلعت هذه النيران المشتعلة في العراق وسورية واليمن، فاستجدت العودة إلى صراع المعسكرات، وحيث إن هناك من انضم إلى روسيا وفلاديمير بوتين، وهناك من انضم إلى الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، بينما هناك المؤلفة قلوبهم الذين اختاروا أنْ يضعوا أنفسهم "رِِجْلاً في البور ورِجْلاً في الفلاحة". والمستغرب حقاً أنه في زمن صراع المعسكرات بين كتلة "تقدمية"! سوفياتية وكتلة "رجعية" غربية - أميركية، لم ينقطع الودّ بين العرب كدول وكشعوب، ولم تصب الجامعة العربية بالكساح الذي تعانيه الآن ولم تتوقف القمم العربية كما توقفت عملياً منذ عام 2002 حتى الآن، ولم تصل القطيعة بين الشقيق وشقيقه إلى هذا الذي وصلت إليه. كان هناك في تلك الفترة، فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي وامتداداً إلى بدايات تسعينياته، سعاة خير يبادرون إلى رأب الصدوع وإصلاح ذات البين بين الأشقاء المتناحرين، أما في هذه الأيام السوداء وفي هذه الفترة التاريخية المريضة فلم يعد لدينا أمثال أولئك العقلاء الذين كانوا يعضون على جروحهم ويذهبون إلى من يختلفون معهم من أشقاء، فينقلب الخصام إلى ودٍّ، ويصبح التباعد تقارباً وفقاً للعادة العربية الجميلة المعروفة... إنه زمن الوحشة وزمن ذبول الروح القومية، ولذلك أصبحت بلادنا قصعة يتناهشها الأعداء القريبون والبعيدون، ولذلك فإننا نلمس ونرى كل هذا النسيان العربي لفلسطين، ولذلك أيضاً فإننا نرى كل هذا الاختراق الإيراني لوجداننا القومي... إلى حد أن طهران فردت أجنحتها فوق بغداد ودمشق بعد إسقاط الراية العربية ذات الألوان الأربعة الجميلة.