«المكوِّنات الإسلامية لهوية أوروبا» لفْريد موهيتش...
تمازج الأديان الثلاثة أساس تكوين القارة
يُقدِّم د. فْريد موهيتش في كتابه {المكوِّنــات الإسـلامية لـهوية أوروبا} (صادر حديثاً عن مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم ناشرون)، قراءة تحليلية تقييمية ونقدية لما يعتبره {أكبر سردية مخادِعة في التاريخ البشري} بشأن متلازمة {أوروبا، القارة المسيحية} (أوروبا قارة مسيحية حصراً).
يرصد كتاب {المكوِّنات الإسلامية لهوية أوروبا} الذي ترجمه د. كريم الماجري، جذور السردية {أوروبا قارة مسيحية حصراً} التي تمتد عبر قرون طويلة، وتقف وراءها وتُغذِّيها مراكز وقوى اجتماعية مختلفة المشارب. ويبيِّن الـمُؤَلِّف د. فريد موهيتش أن تلك الحملة كانت حاضنتها، خلال حقبة القرون الوسطى، داخل الدوائر الدينية المسيحية النافذة في أوروبا بمختلف طوائفها الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية. وأسَّست الكنيسة الكاثوليكية وأطلقت ودعَّمت نشر أيديولوجية الحروب الصليبية وروَّجت لها، لكن تلك الأيديولوجيا المحاربة وجدت كذلك تبنياً كاملاً وتنفيذاً حرفيّاً لها لدى الطوائف المسيحية الأخرى كافة ومختلف مِلَلِها ونِحَلِها. ومنذ بدايات القرن التاسع عشر، تصدَّت مجتمعات الدول الأوروبية العلمانية لأداء ذلك الدور، وبات جزء من أوروبا ينفي حقيقة التعدُّدية الثقافية لطبيعة الهوية الأوروبية عن طريق التَّعمية على تلك الحقيقة إمَّا بإنكارها أو بتجاهل حقيقة أن ثقافة أوروبا إنما هي مثال كلاسيكي لهوية ثقافية تشكَّلت عبر قرون طويلة من التلاقح والتمازج بين عناصر ثقافية- هُويَّاتية مسيحية وإسلامية على حدٍّ سواء.
مؤثِّرات ثقافية
يهدف الكتاب إلى تقديم هذه الحقيقة وبيان وجوهها وتجلِّياتها؛ فمنذ أكثر من 1300 عام وهوية أوروبا الثقافية تتشكَّل حصرياً عن طريق تفاعل مؤثِّرات ثقافية متعدِّدة ومتنوِّعة، مع دور مُهَيْمِن لعناصر ثقافية، هي نتاج الحضارات اليهودية- المسيحية والإسلامية. وكما هو معروف، فإن أصول هذه الديانات التوحيدية الثلاث ومهد ولادتها هو قارة آسيا، وبالتالي فكلها وافدة على القارة الأوروبية، وهذه الحقيقة، في ذاتها، تنزع من تلك الديانات كافة حقَّها في ادّعاء حصرية تمثيلها هوية أوروبا الثقافية من دون غيرها. ويوضح المؤَلِّف أن سياسة الإصرار على أيديولوجية التمييز الثقافي والديني ضد العناصر الإسلامية المكوِّنة للهوية الأوروبية لصالح العناصر المسيحية تتعارض مع المبادئ المعاصرة الداعية إلى الاحترام المتبادل بين الثقافات والشعوب والأديان، كذلك تبدو في تناقض صارخ مع الحقائق التاريخية التي تؤكد الطابع غير السياسي للهوية الثقافية الأوروبية الشاملة التي تشكَّلت عبر الوجود المكثَّف المتزامن والتفاعل المستمر، عبر قرون عدة، بين العناصر المسيحية والإسلامية لتلك الهوية. تنفيذ هذه السياسة عمليّاً يؤدي، بل أدَّى فعلاً إلى التشكيك وتهديد الاحترام المتبادل الثابت بين أكبر وأهم التقاليد الدينية والثقافية للمسيحية والإسلام، وبالتالي إلى تهديد السلام في أوروبا وفي العالم! أمَّا الهدف الثاني فهو التحذير من المخاطر الكامنة في رفض قبول المساواة بين الإسلام والمسيحية ونفي الحقائق التي تؤكد ذلك الوجود الثابت للعناصر الثقافية المسيحية والإسلامية في الهوية الأوروبية.
معطيات تاريخية
في كتابه يسوق موهيتش جملة من الحقائق؛ ذلك بعرض معطيات تاريخية مثبتة، وتحليل الوثائق التاريخية ومواقف أكثر الكُتَّاب والباحثين عداءً للإسلام والمسلمين من أؤلئك الذين يصرُّون على أحادية أوروبا أيديولوجيّاً ودينيّاً، وينفون التأثير المحوري للإسلام في تكوين هوية أوروبا، فضلاً عن تبيان أهم نتائج البحوث المعاصرة التي توفِّر معطيات تاريخية غير قابلة للطعن، وتدحض النموذج السلبي الذي يُقدَّم حول الإسلام والمسلمين، وتؤكد الحقيقة التاريخية حول الطابع الإسلامي المهم لأوروبا؛ باعتبارها قارة ثقافية.عندما أسَّس المسلمون أول دولة على أرض أوروبا، لم يجدوا أيَّة مجموعة مسيحية تعيش في إطار دولة واضحة المعالم؛ فاليهودية- المسيحية، أو بشكل أدق، فالمسيحية؛ باعتبارها شكلاً من أشكال الاندماج المجتمعي وقاسماً مشتركاً بين أفراده، قد تم تشكيلها بعد فترة طويلة، وفي الأحوال كلها لم يكن ذلك أبداً قبل تأسيس الدولة الإسلامية في أوروبا عام 711 ميلادية، على جزء صغير من أرض أوروبا.أكبر جزء من أوروبا (إسكندنافيا، وشمال ووسط وشرق أوروبا بالإضافة إلى روسيا وأوكرانيا) ظلَّ وثنيّاً لقرون عدة تلت تقبُّل مناطق أوروبية واسعة جدّاً للإسلام ودخولها تحت سلطة الدولة الإسلامية؛ ما يعني أن حقبة وثنية أوروبا امتدت إلى قرون بعد تأسيس دول إسلامية في أوروبا، من القوقاز عبر أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى الأندلس، التي كانت في تلك الفترة أكثر الدول الأوروبية نموّاً اقتصاديّاً وثقافيّاً، وكانت أقوى دولة عسكريّاً في كامل أوروبا.يخلص الكتاب إلى أن الحقائق التاريخية تؤكد أن هوية أوروبا مثال كلاسيكي على التقاء مزيج من الثقافات الناتجة عن تلاقح جملة عناصر ثقافية لم يعد من الممكن فصل إحداها من دون التسبب في ضياع هوية أوروبا كما نعرفها اليوم، والتي تم تكوينها، في غالبيتها، تحت تأثير وتلاقح ثقافات لا تستمد جذورها من أوروبا، وهي بالأساس ثقافات يهودية- مسيحية وإسلامية.