شحذ القريحة
الشاعر يعرف كيف تبدأ قصيدته، من أي قدحة تلتهب، ومن أي نبع تتدفق. جملة ذات إيقاع أحياناً، صورة تثب من المخيلة، جملة من نص شعري أو نثري لدى القراءة، خلطة ألوان، لحن، ذكرى، رائحة. الشاعر يعرف المناخ النفسي الذي تمليه عليه، قبل أن تبدأ.أحدهم يتعجل احتساء القهوة مع سحبة دخان من سيجارة، آخر يعد كأساً، وثالث يأخذه طرب فيهمهم بلحن غامض على غير تعيين، ورابع يلاحق بنقرات إصبعه إيقاعا مجردا: مستفعِلن.. مستفعلن. كل الشعراء الذين قرأت حياتهم، عرباً وعالميين، قدامى أو جددا، يحتفون بتلك اللحظة، فيذكرونها، أو تذكر عنهم. النقاد العرب القدامى يسمونها "شحذ القريحة"؛ فقد يكون هذا "الشحذ" عصيا على شاعر مثل الفرزدق، المحكك، الذي "ينحت من صخر"، حتى ليقول عن نفسه: "تمر عليّ الساعة حتى لقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من عمل بيت من الشعر".
والشاعر جرير، الذي كان في المقابل "يغرف من بحر"، يجد في "الخلوة" مع النفس معيناً على شحذ القريحة. كان إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلا: يشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطح وحده فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. ونقيضه الفرزدق يعتمد الخلوة أيضا. كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خاليا منفردا وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية.وإذا كانت هذه الخلوات ذات سمة صحراوية، فابن الحاضرة كأبي نؤاس، الذي لا يقل حاجة لها، يستدعي قصيدته بالخلوة مع الكأس: "أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية".وقد يذهب شاعر آخر من أبناء الترف إلى أبعد من هذا: "ما يعينني على الشعر زهرة البستان وراحة الحمام". ثم قد يضيف إلى القائمة: طيب الطعام، والشراب، وسماع الغناء. على أن الخلوة بالنفس هي المحور، حتى أن الشاعر الخليع قال: "من لم يأت شعره من الوحدة فليس بشاعر".والشاعر الذي يحسُن صوته عادة ما يحب الهمهمة اللحنية، وأداء ما يرده من أبيات القريحة غناء. العرب تقول: "مقود الشعر الغناء به".وذكر أن أبا الطيب المتنبي كان يفعل ذلك. حضره أحدهم وهو يكتب قصيدته فرآه "يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى".والقريحة التي تفيض بالغناء تحتاج إلى العشق بالضرورة: يقول بعضهم: "من أراد أن يقول الشعر فليعشق فإنه يرق".الشاعر الحديث لا يختلف عن القدامى في هذه الحاجة إلى شحذ القريحة. ولكنه اختلف في رصدها عبر لغته، في المخيلة والصورة. هناك أكثر من التفاتة واحدة، في الشعر الذي كتبته عبر نصف قرن، إلى لحظة ولادة القصيدة. هذه آخرها: مخاض القصيدة ... وأعددت في البيتِ لحما قديدا / وكأسا من الخمر، ثم انتظرت القصيدة.بدت أول الأمر حرف أسى دامعِ يدور كخيط دخان السجائر، في اللون والشكل والرائحة.وفي لحظة دب صوت عصي على أذن السامع،يحاول لحنا نشازا، ومعنى مجازا، وغايا بلا غاية واضحة.أرى خطواتي تقاد بجذبٍ خفيّ، ويكبحها، حيث تمضي، الجدار.وتخفى عن العين باب ونافذة، ثم يحجب ضوء النهار.تحلّق فرشاة كفي،/ أراها تعيد الخفايا التي لا تبينْملونة ملء عيني. ويضطرها فجأة سبب قاهرفتأخذ بالخط أسود ترشق فيه المكانْ، بغير هدى./ أرى أن شكل القصيدة ثانية يتجلى لعيني حرف أسى دامع/ يدور كخيط الدخانْ،وها يستقر على السطر، في الورق اللامع.