لسنا بصدد تعريف مصطلح الشرق الأوسط هل هو سياسي أم جغرافي أم الاثنان معاً؟ فحسب علمنا ليست هناك خريطة تحدد دول الشرق الأوسط، فبعضها في الشرق الأوسط وبعضها في آسيا وبعضها في شمال إفريقيا، وموضوعنا حول ما يجري في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط وعلى الأخص الدول العربية في هذه المنطقة.

نعيش في مرحلة يمكن تسميتها "عصر الرّدة"، حيث تعاني الكثير مخاضا غير معروف النتائج، ويسودها التراجع في كل شيء إيجابي، وإن تلك السمة عامة وشاملة، وتحتاج إلى رأي ورؤية غير مألوفة، ومجال قادر على إيصالها للناس، أو لنقل إيصالها للنخبة المثقفة في عالمنا العربي، والتي تعيش هي نفسها الأزمة ذاتها، وسنتناول في هذا المقال عدة قضايا جوهرية كل واحدة منها تصلح عنواناً لمقال أو بحث.

Ad

وهي محاولة لوضع اليد على الجروح والتخفيف من آلامها لا نكئها، أما علاجها فهذه مشكلة أصبح مشكوكاً في أمرها، على الأقل في الأمد القصير أو المتوسط، ويبقى أن نتساءل: هل لدى دولنا ومثقفينا ومفكرينا رؤية استراتيجية للخروج من الأزمة الراهنة الطاحنة التي تعصف بهذه الأمة؟ وما المشكلات والقضايا الأساسية التي نعيشها؟ وكيف نواجهها؟ وما مدى مسؤولية المفكرين والمثقفين الذين تراجع دورهم في جميع نواحي حياتنا العربية؟

وإن اختيارنا لمصطلح "الشرق الأوسط" جاء لأن هناك ثلاث دول إقليمية مؤثرة في واقع العرب هي: إيران وتركيا وإسرائيل بالإضافة إلى الدول العربية.

بداية عشنا ونعيش مرحلة "الاستعمار العربي" في مرحلة استقلال الدول العربية سواء من بعض الأنظمة لشعوبها أو من احتلالات دول عربية لأشقائها العرب، والتي مارست أساليب أقسى مما كان يستخدمها الاستعمار قبل الاستقلال، والأمثلة على ذلك دون الدخول في التفاصيل: الاحتلال السوري للبنان في السبعينيات والثمانينيات، والاحتلال العراقي للكويت 1990، ثم الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وتدّخل الدول الإقليمية في الشأن العربي! وتبادل الأدوار مثل: الحرب العراقية الإيرانية خلال الثمانينيات من القرن العشرين، والتدخل الإيراني في عدد من الدول العربية في مقدمتها العراق منذ سقوط نظام حزب البعث في العراق في 2003م، ومحاولات تركيا في سورية والعراق، وكل الذي يجري ليس بعيداً عن الدور الأميركي الخارجي وتأثيره، وممارسة سياسة المصالح بنهج براغماتي: النفط، وبيع السلاح، وحماية إسرائيل.

وكاتب هذه الكلمات متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر، ويفهم التاريخ على أنه أحداث الماضي المؤثرة في الحاضر والمستقبل، ولذلك سيكون طرحنا ومعالجتنا في هذا الإطار.

لقد قرأنا في كتب التاريخ أن الاستعمار الأجنبي وبخاصة الأوروبي قد احتل عالمنا العربي واستغل ثرواته وعطل تقدمه، ومارس أبشع أنواع الظلم والنهب، كما قرأنا وعشنا لاحقاً ممارسات أنظمة عربية، ودول عربية ضد شعوبها وشقيقاتها احتلالاً، وقمعاً، وظلماً، ونهباً يفوق ما كان يمارسه الاستعمار، واكتشفنا أن هناك بعض الإيجابيات للدول الاستعمارية في دولنا، في حين ليس هناك إيجابيات لكثير من الأنظمة العربية ودول الاستعمار العربي أو الشرق أوسطي، والمفارقة في بعض حالات الصراع أن الاحتلال كان عربياً، والتحرر كان غربياً كحالة الغزو العراقي للكويت عام 1990م.

وبما أننا أشرنا آنفاً إلى أن للاستعمار الذي سيطر على الوطن العربي بعض الإيجابيات، فلا بد من توضيح ذلك حتى لا يساء الفهم: أولاً، وقبل كل شيء، إن الاستعمار هو احتلال وظلم وتخلف واستنزاف لثروات المستعمرات، وقد خضع الوطن العربي إلى الاستعمار الغربي في التاريخ الحديث، وكافحت الشعوب العربية من أجل نيل الاستقلال، وبتقييم فترة الاستقلال من نصف قرن إلا ثلاثة أرباع القرن نجد أن التجارب سيئة ومتخلفة، وفشل في إقامة النموذج العربي للتنمية والتطور والاستقلال ما عدا بعض الإيجابيات المحدودة، لكن السؤال: ما إيجابيات الفترة الاستعمارية؟

ولنأخذ أمثلة من بعض الدول العربية، واختيارنا لهذه النماذج لا يعني أن انعكاسات تأثير الاستعمار فيها وحدها بل أكثر وضوحاً في المجالات القانونية والعمرانية والمؤسساتية.

بداية جاء دخول القانون والدستور إلى الدول العربية فعلياً في عهد الاستعمار، وإن كانت البداية على يد الطهطاوي في عهد محمد علي، لكن الدستور المصري كان عام 1923 في عهد الاستعمار البريطاني، ومنه انطلق التشريع القانوني والدستوري، إلى المشرق العربي. وقبل ذلك في فترة الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، فبالإضافة إلى الدستور والقانون كان هناك مشروع حفر قناة السويس في مصر بين البحرين الأحمر والمتوسط، وهو مشروع فرنسي جاءت به الحملة الفرنسية ليتم بعد سبعين عاماً، ثم اكتشاف حجر رشيد وعليه سر اللغة الهيروغليفية الفرعونية على يد العلماء الآثاريين الفرنسيين المصاحبين للحملة، بعد ذلك دخول الطباعة إلى مصر على يد الحملة الفرنسية ثم الدول العربية لأول مرة. ولما كانت التجربة الأوروبية الليبرالية والعلمانية منتصرة، وتحقق إنجازات مهمة في أوروبا، دخلت الدول العربية في عصر الاستعمار لهذه الدول، وانكشف لاحقاً أن النموذج الأوروبي هو الأفضل للتقدم بعد أن عشنا صراعاً إثنياً طائفياً وعنصرياً، وتفوقاً إسرائيلياً، وقد شهدت بعض أقطارنا العربية تحديثاً في بعض المجالات لكنها لم تشهد بعد حداثة حقيقية كما حدث لأوروبا في عصر التنوير وبعده.

وفي فترة الاستعمار التي امتدت طوال القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين حدثت تحولات مباشرة وغير مباشر في عدد من الدول العربية، مثل: حق التظاهر في حدود القانون، وقيام الأحزاب السياسية في حدود القانون، ونظام تعليمي حديث، وإنشاء الموانئ في عدد من الدول العربية مثل: ميناء عدن والبصرة، وبينزرت وأغادير وغيرها، وانطفأ وهج هذه الموانئ وغيرها في فترة الاستقلال!

ثم على المستوى الاجتماعي مسألة حقوق المرأة المدنية والسياسية، نعم كل تلك الوقائع في حدود المصالح الاستعمارية لكنها وقائع تاريخية حدثت ولا يمكن إنكارها، وإن حماسنا القومي والديني ضد الاستعمار جعلنا نغيب بعض الحقائق التاريخية، وإن ذكرت فالرد أن ما فعله الاستعمار في تلك المجالات كان من أجل مصالحه نعم، ولكن هل كان لما فعله الاستعمار من آثار إيجابية سياسية واقتصادية على دولنا وشعوبنا العربية بالإضافة للآثار السلبية؟

نعيش في هذه المرحلة التاريخية في الوطن العربي في حروب أهلية إثنية هي خارج مفهوم العصر في معظم دولنا العربية الكبيرة بتأجيج وتدخل إقليمي ودولي، وما كان لهذا التدخل أن يحدث لولا ضعف أوضاعنا الداخلية وتدهورها، فبناء الدول العربية الذي أخذ جهوداً وتضحيات على مدى قرن من الزمان ينهار في عدد من تلك الدول، وإن إعادة تأهيلها ليس بالأمر الهين أو الممكن، وما تنتهي حرب داخلية إلا بميلاد حرب أخرى على امتداد الوطن العربي في المشرق والمغرب والقرن الإفريقي.

وقد حدث ويحدث تراجع في الحرية النسبية والثقافة النوعية، لا بل في التعليم النظامي الحديث، وإن الأزمات والحروب الداخلية خلقت حالة من الضعف للشعوب، وفتحت مجالات واسعة للتدخلات الخارجية إقليمياً ودولياً وبعض تلك المآسي، إن لم تكن أغلبها، هي صنع الأنظمة الدكتاتورية والفاشية، وغياب الديمقراطية والتعددية، وهنا نحن معنيون بتشخيص الداء لا وصف العلاج لأن المشكلة هي غياب الرؤية والمشروع، وغياب القوى الخيّرة التي يمكن أن تكون لديها رؤية ومشروع للخروج من الأزمة الطاحنة في حياة أمننا في عصرنا، وما المتوقع بعد كل الذي جرى ويجري، وفي ظل فساد سياسي وإداري ومالي؟! تخلف وانقسام وضياع.

وفي ظل المفارقات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وبلادنا العربية خاصة دخلنا مرحلة هيمنة التيار الديني الإسلامي، وعلى الرغم من إيجابيات أطروحات بعض تيار الإسلام السياسي وبعض عناصره فإن هذا التيار يعيش تناقضات وصراعا وأزمة في ذاته قبل أن يكون جزءاً من أزمة الدول العربية، فهناك التطرف الديني الذي وصل أقصاه على يد "القاعدة" و"داعش"، وهناك حالة الصراع بدل الحوار والوسطية، وهناك عدم الاعتراف بالآخر وعدم الإيمان الحقيقي بالديمقراطية والتعددية، وهناك التكتيك السياسي على حساب المبادئ والفكر الاستراتيجي، وهناك سيطرة الماضوية على الحاضر والمستقبل، وهناك اعتقاد بأن الفوز بالانتخابات في دول متخلفة بأي وسيلة كانت هي الشورى والديمقراطية، والمفارقة تكمن مثلاً فى الصراع بين أجنحة التيار الديني السياسي، وبين ما تقوله وما تفعله تلك القوى على الأرض! والخلط بين التاريخي والمقدس! وكانت معظم قوى ذلك التيار ضد الديمقراطية على أنها تستند إلى قانون دنيوي لا ديني، وضد حقوق المرأة السياسية خاصة! وبعد ذلك تخوض الانتخابات البرلمانية وغيرها، وتجيش المرأة في حملاتها الانتخابية، وتضطر لتطبيق قانون حقوقها المدنية والسياسية، الأمر الذي وصل حد المناداة من قبل إسلاميين وغيرهم لضرورة قيام حركة إصلاح دينية جديدة، وأن فكر الزعامات الدينية السابقة أفضل من فكر القوى والزعامات الدينية في الوقت الحاضر في معظمها.

وفي المحصلة النهائية أن الجميع خاسر في ظل الأوضاع القائمة ما لم يكن هناك إيمان حقيقي بحق الآخر والاعتراف بذلك والتعامل معه لمواجهة الحالة المتردية التي تعيشها دولنا على جميع المستويات.