الإصلاح السياسي واختلال موازين القوى
المراهنة على تعديل موازين القوى في المجتمع من خلال مجلس الأمة وحده هي مراهنة خاسرة بكل المقاييس، لا سيما في ظل استمرار الفوضى السياسية الحالية، والاستقطابات الطائفية والفئوية الحادة التي أحيت هويات ثانوية (قبيلة، طائفة، عائلة) كانت سائدة قبل تشكّل الدولة الحديثة، فضلا عن وجود نظام انتخابي سيئ وغير عادل.
التراجع الديمقراطي والتنموي المؤسف الذي نعيشه حالياً لا يحدث من فراغ، بل هو نتيجة طبيعية لاختلال موازين القوى في المجتمع، حيث إن قوى سياسية-اقتصادية متنفذة لها مصلحة مباشرة في استمرار الوضع الحالي، تعمل منذ سنوات وبشكل دؤوب على تفريغ الدستور من مضمونه الذي يؤسس لدولة مدنيّة ديمقراطية حديثة، وعلى تهميش دور السلطة التشريعية، وهو ما تحقق بشكل كبير بعد العمل بالنظام الانتخابي الجديد "الصوت الواحد"، وذلك باعتراف عدد من أعضاء مجلس 2013 المِنحلّ، إذ ذكروا صراحة وعلانية أن الوزراء لا يستمعون لهم ولا يجيبون عن أسئلتهم، وأن الدور الرقابي للمجلس منعدم، فأداة الاستجواب باتت عديمة الفائدة، لأن الحكومة مُسيطرة بالكامل على المجلس.بكلمات أخرى، فإن طريق الإصلاح السياسي-الديمقرطي والاقتصادي الحقيقي واضح، وقد سبقتنا إليه دول كثيرة، فنحن لا نُعيد اختراع العجلة كما يقال، ولكن المشكلة هي أن موازين القوى السياسية-الاقتصادية الحالية مُختلّة، وهي ليست في مصلحة تطوير النظام الديمقراطي وتجذيره، بحيث يشارك جميع المواطنين بشكل متساوٍ في السلطة والثروة.
وما لم يتشكل اصطفاف مدنيّ ديمقراطي عريض ذو امتداد شعبي واسع، مثلما ذكرنا في المقال السابق، بحيث يقوم بتبني مطالب محددة للإصلاح السياسي-الديمقراطي، مثل تنظيم العمل السياسي وإصلاح النظام الانتخابي، من شأنها تعديل الخلل وترجيح كفة الإصلاح والتغيير باتجاه الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية، فإن الوضع السياسي-الاقتصادي الحالي سيزداد سوءاً.وفي هذا السياق، فإن المراهنة على تعديل موازين القوى في المجتمع من خلال مجلس الأمة وحده هي مراهنة خاسرة بكل المقاييس، لا سيما في ظل استمرار الفوضى السياسية الحالية، والاستقطابات الطائفية والفئوية الحادة التي أحيت هويات ثانوية (قبيلة، طائفة، عائلة) كانت سائدة قبل تشكّل الدولة الحديثة، فضلا عن وجود نظام انتخابي سيئ وغير عادل. ولن ينتج عن كل ذلك سِوى مجلس شكلي تستخدمه مراكز النفوذ والأقطاب المتصارعة في الدائرة الضيقة في حسم صراعاتها الداخلية، وهو الأمر الذي يعني أن الخلل في موازين القوى سيستمر، أي أن قاعدة المشاركة الشعبية في عملية صنع السياسات واتخاذ القرارات العامة ستكون محدودة للغاية وشكلية، وبالتالي ستستمر عملية التراجع الديمقراطي والتنموي، وستزداد معاناة عامة الناس بعد أن تفرض عليهم سياسات اقتصادية نيوليبرالية غير عادلة. علاوة على ذلك فإنه من الخطأ الجسيم تجاهل تأثير الرأي العام والضغط الشعبي في صنع السياسات العامة وتغييرها حتى في الدول الديمقراطية المتقدمة التي لديها برلمانات عريقة.