في نوفمبر من كل عام تبدأ حالات الترقب ويشتد الشوق لهذه الرحلة التي أحاول ألا أخل بموعدها.

في نوفمبر من كل عام أكون على موعد مع الإنسان الذي تركته هناك قبل أعوام آخذة في التمدد وأجاهد النفس ألا تتضاءل ذاكرتي أو تختفي صورته الأجمل. الإنسان الذي تحول إلى تاريخ أو ماضٍ أحاول أن أستعيده في نوفمبر من كل عام.

Ad

لا يستطيع حرف أعرفه ولا أظن آخر أجهله أن يصف هذه الحالة التى أترقب فيها احتضان كل الأشياء التي أعشقها دفعة واحدة. الأشياء التي تراودني أثناء هذا الغياب القسري المرير من الجهراء/ الذاكرة والجهراء /الحاضر، إلى تفاصيل وجوه الأحبة ولهفة لقائهم كل عام في معرض الكتاب العربي.

في نوفمبر من كل عام أرتب موعدي مع حدث ارتبط بذاكرتي أكثر من سواه. ارتبط بفترة التعلق الأولى بالكتابة والكتاب. لم يعد معرض الكتاب العربي مجرد عرض منتج وطلب مستهلك، لكنه تحول، بالنسبة لي على الأقل، إلى حالة ثقافية خاصة ألتقي بها أغلب كتابنا الشباب والكبار. ومنذ أول معرض كتاب ارتبطت فيه وحتى الآن وهو يشكل لي ولكثيرين غيري سمة من سمات الوطن الثقافية كان أملنا أن يتطور ويحافظ على صدارته وريادته.

لكننا للأسف توقفنا عند ذلك الزمن القديم، ولم نحسن استثمار تلك الريادة. وحين نقارن معرضنا العتيد بمعارض أخرى في المنطقة نشعر بشيء من الخجل. ولا نمتلك سوى أن نتذكر أننا كنا الأقدم ليس إلا. ففي الوقت الذي تصاحب معارض الخليج فعاليات ثقافية ودعوات لمثقفين ومشاهير، كما يحدث في معرض الشارقة، نجد معرضنا يزداد بؤسا وجفافا، وتكاد إقامته تبدو من باب رفع العتب.

وأتذكر معرض الكويت للكتاب بعد التحرير مباشرة، وكيف كان هناك إصرار يومها أن يقام في موعده، وأن تذلل أمامه جميع الصعاب، وكأنه صورة لعودة البلاد إلى سابق عهدها.

في الدولة الديمقراطية وبلاد الحريات يتوقع المرء أن تزدهر الفعاليات المختلفة وترفع الرقابة عن الفكر والكتاب. لكن ما يحدث هو العكس، فلا الفعاليات المصاحبة للمعرض ترقى لتاريخه ومكانته، ولا الحريات التي يتمتع بها الكاتب والكتاب مكفولة. والقسوة بحق الكاتب المحلي أكثر مقارنة بغيره.

بالتأكيد نفرح حين نرى مثلا منشأة كدار الأوبرا التي افتتحت أخيرا في الكويت، حتى وإن جاءت متأخرة عن موعدها بكثير، ونحزن حين يقابلها البعض بالعداء للفن، ومحاولة شيطنة كل ما يختلف معه، في محاولة منه لتأكيد أن البلاد ما زالت تخضع لأوامره ورؤيته الخاصة للحياة. لكننا نرى أن ذلك تناقض فكري لا نستطيع استيعابه بسهولة، فالذي يبني أوبرا ويطمح لأن يقدم فيها أعمالا عالمية كان عليه أولا أن يعرف أن معارضيه هنا أكثر من معارضي حرية الكتاب، وعليه أن يسمح بحرية تداول كتاب قبل أن يستضيف فرقة أوبرا عالمية أو عرض عالمي لا يقبل الرقابة على عمله.

في نوفمبر من كل عام أحلم بوطن لا يخاف من كتاب، ولا يهاب من زيارة شاعر، ولا تهزه محاضرة. أحلم بوطن لا يفرض عليه صوت مختلف رأيا تحت سطوة الإرهاب الفكري. أحلم بوطن يدرك أن التنوع والاختلاف أساس بقاء واستمرار. وطن يستوعب الجميع ويقبله، فلا يهمين رأي على بقية الآراء.