في صباي رأيت على الشاشة "هرقل الجبار"، في هيئة بطل تتزاحم فيه العضلات، هو الأميركي ستيـﭪ ريـﭬز. ولم تُمح الصورة حتى في الأيام التي تعرّفت فيها على الأسطورة اليونانية/ الرومانية، حيث هيركيولِس ابنٌ لأب هو الإله "زيوس"، ولأمٍ من البشر الفانين.

وبقدر تعدد الأوجه التي يتمتع بها هذا الرجل الأسطورة، هناك العديد من المغامرات البطولية التي يخوضها. ولقد انتفع الأدب والفن من هذه القصص حتى عصرنا الحديث.

Ad

الشاعر الدرامي اليوناني "سوفوكليس" قدمها في عمله "نساء تراتشِس"، ونوّعَ عليها كل من "أوﭬيد" في "مسخ الكائنات"، و"سينيكا" في دراما شعرية له. ومن هؤلاء اعتمد الموسيقي الألماني النشأة، الإنكليزي الإنجاز، فريدريك هاندل (1685 ـ 1959) نصاً أعده له الإنكليزي توماس بروتن، لإنجاز عمله "هيركيولس" (أوراتوريو/ أوبرا)، الذي نجح في إبدال صورة البطل العضلي الهيئة في مخيلتي بصورة بطل تراجيدي، لا أُحسن رؤيته إلا عبر موسيقى الأوركسترا والكورس والمغنين المنفردين، ولعلها الصورة الأكثر تأثيراً.

اقتنيت آخر تسجيل DVD صدر لهذه الأوبرا عن "أوبرا باريس الوطنية" تحت قيادة "كريستي". لكن محجّةَ الأذن في هذا العمل كانت المغنية الأميركية جويس ديدوناتو (مواليد 1969، ميتسو سوبرانو)، التي تقوم بدور "ديجانيرا" زوجة هيركيولس. فهذه المغنية، قبل فتنة المرأة وجمالها، تمنحُك بكرم فتنة الحنجرة والأداء. ورغم أنها اقتصرت أو تكاد على أداء ألحان كلٍّ من "هاندل"، "موتسارت" و"روسّيني" في أعمالهم الأوبرالية، فإن حقل أدائها يتسع للرومانتكيين، مثل الفرنسي "ماسينيه" أو موسيقيي الـ"بيل كانتو" مثل الإيطالي "دونيزيتّي".

وسرُّ إحاطتها بالثلاثة الأوائل كامن في حنجرتها الماهرة في أداء الـ"كولوراتورا" الغنائي الطابع lyric-coloratura . وهو أداء زخرفي، تلون فيه الحنجرةُ طبقتها بدرجات شتى.

وضع هاندل هذا العمل كـ"أوراتوريو" (1744)، بعد أن وجد ميلاً في الذائقة الإنكليزية لهذا الفن، مقارنة بالأوبرا. والفرق بين هذا الفن وفن الأوبرا يكاد يقتصر على الإخراج المسرحي وحده. فهو يُقدَّم على المسرح دون تمثيل وإخراج وأزياء وماكياج. ولشفافية هذا الفارق كانت "هيركيولس" تُقدَّم كأوبرا على الدوام.

الحكاية نراها بأزياء عصرية، والمخرج يجتهد في تبسيط الحدث، ليمنحه معنى المعالجة للغيرة الجنسية التي تبلغ الجنون المميت، ولا يتحقق الخلاص إلا على يد الجيل الشاب التالي، الأكثر حكمة.

كانت "ديجانيرا" تنتظر عودة زوجها هيركيولس، بعد أن فقدت الأمل في ظنها أنه قُتل في حربة الأخيرة. لكنه يعود بصحبة أسيرة صبية بالغة الجمال، هي "لولي"، ابنة الملك المدحور.

مشاعر "ديجانيرا" تبدأ بالارتياب من ميول زوجها العائد، لتتحول إلى عاصفة من الغيرة، تقودها إلى قتل زوجها بلباس مسموم، ثم إلى الجنون. "هيلاس" ابنُها يقع بحب "لولي" ما إن يلتقيا، ويظل يرزح تحت ظل مشاعر الأم السوداء، ومقتل الأدب الدامي حتى يأخذ حبيبته، ويحقق خلاصه في الهرب.

هاندل موسيقي المشاعر الفردية، تلك التي تعكس طبيعة الفرد الدفينة. شخوص أوبراه ليست أنماطاً، حتى لو كانت مستوحاة من الكتب الدينية، فكيف إذا ما استوحيت من كتب الأدب والأساطير، كهذه الأوبرا؟ إنه تشخيص لطبيعة ولمشاعر بالغة التنوع: حب عذب، حب دامٍ، غيرة قاتلة، نزوع للشر... دراما هذه المشاعر تحتدم في كل واحد من شخوص هذا العمل. لولي أسيرة، لكنها تواقة للحب والتسامح. لك أن تُصغي إلى أغنيتها الملائكية: "صدري يمتلئ بمشاعر الشفقة من مرأى الويل الإنساني، ويشعر بالكرب المتعاطف...". التسجيل في هذا الرابط لم يذكر اسم المخيلة:

من صوت ديدوناتو المؤثر اخترت ثلاث أغنيات، الأولى: "هناك نستريح تحت ظلال الآس، وعلى الضفاف، وعبر ريح الفردوس، في الوحدة الأعذب سوف ننعم بأبدية هناءة الحب".

والثانية: "قف عن ارتفاعك أيها المتحكم بساعات النهار..".

والثالثة: "أي مهرب تُرى، وأين سأُخفي هذا الرأس الخاطئ؟ أيها الخطأ المميت للحب الضال".

الأغنيات منفردة يمكن أن تكون بالغة المتعة، لكنها تتطلع إلى اكتمالها بسماع الأوبرا ككل. مع قناعتي بأن الأوبرا ما زالت شاقة على كثيرين، إلا أنها يمكن أن تتيسر مع ذي الفضول المعرفي والجمالي، الذي لا يمكن أن يُكبح.