في الأسبوع الماضي كانت شبكة "الجزيرة" تحتفل بمرور عقدين على انطلاقها المؤثر في الفضاء العربي، حيث خصصت جزءاً من تغطيتها لنقل وجهات نظر أبرز العاملين فيها عن مسيرتهم المهنية ورؤيتهم لنتاج عملهم ومحصلة أدائهم.

ومن بين أبرز ما قيل على لسان هؤلاء الصحافيين القياديين في "الجزيرة"، ما جاء على لسان أحدهم حين قال: "ما فعلته (الجزيرة) هو أهم إنجاز عربي بعد حرب أكتوبر 1973" (...).

Ad

سيمكن أن يكون هذا التقييم باعثاً على الدهشة، خصوصاً عند مقارنته بتقييمات عدة صدرت عن منابر إعلامية وسياسية مختلفة، ليس فقط في ختام العشرية الثانية من عمر "الجزيرة"، ولكن على مدى العقدين الفائتين؛ وهي تقييمات تراوح ما بين الاتهام بـ"الخيانة" والانتقادات للأداء "المنحاز وغير المهني"، وصولاً إلى الوصف الحاد الذي أطلقته وسيلة إعلامية "مناوئة" على الاحتفالات، معتبرة أنها "احتفالات بعشرين عاماً من النضال من أجل إسقاط الدول العربية".

من جانبي لا يمكن أن أصدق أن "الجزيرة" هي أهم إنجاز عربي بعد حرب أكتوبر 1973، بصرف النظر عما إذا كان العرب قد حققوا إنجازات في تلك الحقبة أم أخفقوا في ذلك.

كما أنه لا يمكن الاستسلام لنظرية أن "الجزيرة" قادرة وحدها على "إسقاط الدول العربية"، فضلاً عن أن تكون قد أرادت هذا بالفعل.

يعكس التقييمان المتباعدان والغارقان في الحدة صورة أمينة لطبيعة الجدل الذي أثارته "الجزيرة" في الواقع العربي.

عرف العالم العربي وسائل الإعلام الشعبية منذ أكثر من قرن، وبدأت الإذاعة والتلفزيون بالتحكم في جزء مهم من صناعة الأخبار في المنطقة منذ أكثر من خمسة عقود، لكن ما أثارته شبكة "الجزيرة" الفضائية، في 20 عاماً، من جدل، وما أطلقته من عواصف وأعاصير، لم يحدث مثله على مدى تلك السنين الطوال.

فمنذ انطلقت "الجزيرة"، في مثل تلك الأيام عام 1996 من الدوحة، وهي تملأ الدنيا وتشغل الناس، وتتحول من مجرد وسيلة إعلام تنافس غيرها في بث الأخبار واللحاق بها ومحاولة السبق والتجويد إلى مشروع سياسي قائم بذاته... وفي تفسير آخر "ذراع سياسية للدولة القطرية تتخذ سمت الإعلام"... وفي رؤية ثالثة "دولة داخل الدولة".

يكيل النقاد الاتهامات الثقيلة لـ"الجزيرة" في كل آن، بحيث باتت أكثر تعرضاً للتصويب والاستهداف من وسائل إعلام بغيضة وعنصرية وأكثر بعداً عن المعايير المهنية والإنسانية السليمة، بمراحل واسعة.

بعض النقاد يأخذ على "الجزيرة" أنها "إسلاموية" بامتياز، تم خطفها لمصلحة تيار "الإخوان المسلمين"، في ما يرى آخرون أنها "أميركية" حتى النخاع، بسبب "سعيها لخدمة المشروع الأميركي"، بل إن معارضين شرسين للشبكة الإعلامية الأخطر في منطقتنا يعتبرون أنها "خدمت الإرهاب ورعته، خصوصاً في أفغانستان والعراق وسورية وفلسطين ومصر"، في ما يدفع آخرون بالعكس، متهمين إياها بأنها "سلمت المجاهدين إلى الشيطان الأكبر".

الأمر ذاته يتكرر بالتفصيل، حين يرى لائمون أنها "توسع لإسرائيل في المنطقة وتنفذ أجندة صهيونية"، في مواجهة آخرين، لا يقلون شغفاً بالهجوم عليها، متذرعين بأنها "ليست سوى حافر إيراني في الخليج".

ستجد مواطنين عرباً بالآلاف يرفعون شعار "الجزيرة" في ساحة من ساحات "التغيير والتحرير" العربية، معتبرين أنها "جزء لا يتجزأ من ثورتهم"، ومدافعين عنها في مواجهة "عسف السلطات وبطشها"، لكنك ستجد أيضاً، في ساحة لا تبعد غير أميال قليلة، آلافاً آخرين يهتفون ضدها ويحرضون عليها، باعتبارها "أداة لإشاعة الفوضى، وهدم وحدة الأوطان، لتنفيذ أهداف صهيو- أميركية". يحق لـ"الجزيرة" والقائمين عليها الشعور بالفخر الآن، وهم احتفلوا، وتذكروا الأمجاد، مطلع شهر نوفمبر الجاري، في الذكرى الـ 20 لانطلاق الشبكة، ولعلهم لا يشعرون بأي غضاضة أو خجل أو وخز ضمير، لأن حصيلة تلك الاتهامات المتضاربة الحادة لن تكون إلا إضفاء المزيد من الأهمية على عملهم وتكريس شعورهم بالثقة.

تشبه "الجزيرة"، جيشاً صغيراً ذكياً، مسلحاً حتى الأسنان بالمال الوفير السهل، يبحث عن معركة يخوضها، ليكرس اليقين في أنه "جيش"، بغض النظر عن أطراف تلك المعركة أو القيم المتصارع عليها فيها، مستنداً إلى طاقة كبيرة من الجرأة والانتهاز، ومستفيداً من الرشاقة وصغر الحجم وحظوظ الجغرافيا، ومتحللاً من أعباء التاريخ والتزامات الكبار.

يحق لـ "الجزيرة" أن تحتفل، وأن تشعر بالمجد والنشوة، ويحق لها أن نقر بأنها ألقت بالحجر الكبير في بركة الإعلام العربي الآسنة، وأعطت انطباعاً جيداً للعالم عن قدرة الإعلام العربي وتنافسيته، ورفعت أسقف الحرية والأداء، ونورت الجمهور العربي، ووفرت له منبراً أكثر انفتاحاً مما اعتاد عليه لعقود، وجرّت المنافسين المتراخين والمسلوبين والمغرضين من شعورهم إلى حيث يكونون أكثر جرأة وانفتاحاً، وأقل كذباً وبلاهة ومداراة، واتسع أثيرها لمصادر محجوبة ومحظورة لسنين طوال، وطرحت آراء معتما عليها، في كثير من الأحيان.

لكن "الجزيرة" أيضاً لم تستطع أن تبرهن أنها "مستقلة" عن تأثير سياسة الدولة التي توفر لها المال الوفير السهل، بلا مساءلة أو معيار أو رغبة في إدراك جدوى الإنفاق، كما أخفقت في إثبات مهنيتها بسبب انحيازها السافر خصوصاً عبر أذرعها المسماة "مباشر".

تناصر "الجزيرة" تنظيم "الإخوان" أينما كان، وبصرف النظر عن الذرائع الأخلاقية والاعتبارات المهنية، ويظهر هذا بوضوح في اختيارات القصص والمصادر وفي المقاربة والمعالجة.

تنحاز "الجزيرة" أحياناً، فتفقد رشدها المهني تماماً، وتنسى أنها بلغت العشرين، وتتصرف كطفل أرعن، حينما يتعلق الأمر بمرسي والسيسي، أو الحكومتين المتصارعتين في ليبيا، أو "حماس" و"فتح".

حين تستطيع "الجزيرة" أن تسلط الضوء على أوضاع حقوق الإنسان في قطر، أو المشكلات السياسية في السعودية، أو تفتح بطن الشارع في البحرين وعُمان، كما تفعل إزاء سورية ومصر وليبيا والعراق، ستكون قد تجاوزت جزءاً من أزمة مصداقيتها.

إذا ابتعدت "الجزيرة" عن دور "صانعة الثورات" و"حامية الإسلام" و"حصن المقاومة"، لمصلحة دور الوسيلة الإعلامية الموضوعية، فستكون قد أسست لعشرين عاماً جديدة أفضل من تلك التي مضت.

* كاتب مصري