ما أبرز النقاط التي ركزت عليها في المحاضرتين اللتين ألقيتهما في واشنطن أخيراً؟

Ad

خلال إقامتي في بلاد العم سام وأوباما وهيلاري كلينتون... ألقيت محاضرتين في جامعة واشنطن حول تأثير الفينيقيين في الحضارة الغربية. وكان التركيز فيهما على أن الفينيقيين ذوو باع طويل في الفكر العالمي، إذ ابتدعوا الحرف الذي أمسى لغة على يد الإغريق. وبيروت هي أم الشرائع في حين أن الملك حيرام في صور وفّر للملك سليمان خشب الأرز لتشييد هيكله الشهير. وقد أبرم معه أول عقد عالمي للسلام، وهذا يقيم الدليل على أن أجدادنا لهم أيادٍ بيض في الجانبين الفكري والسياسي، وليت عالم اليوم يدرك هذا الدور، وبدلاً من أن يحمّلنا أسباب المعضلات الإقليمية وتبعاتها يرى ويثبت أننا، على رغم نزاعاتنا الداخلية المتوارثة (ولم تكن ثمة طوائف كما اليوم)، نجسّد ولو فرادى نماذج من الإبداع والانفتاح والتفاعل الحضاري.

لا شك في أن دوافع أو بواعث خلق الحرف تجلّت تجارية ولكنها إبداعات حقيقية. وأسطع دليل على ذلك تسمية الإغريق جبيل الفنيقية «بيبلوس» التي تعني اشتقاقاً الكتاب أو الكلمة، ومن هنا اشتققنا كلمة الكتاب المقدس «بيبل».

وتتبعت هناك أخبار السياسة ورأيت على مألوف العادة أنهم قلما يذكرون الوضع في بلادنا، وقليل منهم يعرف أن ثمة دولة قائمة تدعى لبنان. وعندما نشير إليهم بأن دولتنا العلية قائمة على تخوم أشقاء متصارعين حالياً، وجيران محركين للأزمات حتى عن بعد يقولون لنا: تعنون دولة شارل مالك وجبران خليل جبران وسيدة حاريصا وأم الشرائع وغير ذلك؟

بعيد كل من المحاضرات المشار إليها، وقعت بعضاً من كتبي الجديدة وذكرت أن كتابي الجديد سيكون بعنوان «جهاد نعمان بأقلام عارفيه».

ما أبرز المحاور التي تطرقت إليها في مؤلفاتك؟

فضلاً عن مقالاتي شبه اليومية التي أدبجها منذ سن الثامنة عشرة أي عام 1968، وعددها 5 آلاف مقال، ثمة ما يربو على 30 كتاباً تجمع بين الأدب والفلسفة، وبين العقل والقلب، وبين المادة والروح، وبين الجوهر والوجود، وبين التلوث الذهني والتلوث الطبيعي، وبين السلم الخارجي والسلام الداخلي، وبين الإيمان والعقل، وتحاول مقارنة الأديان والحضارات والثقافات ليس بالضرورة لصهرها في بوتقة واحدة، وهذا مستحيل، إنما لإيجاد جوامع مشتركة بينها والتوقف عند مناحيها الاجتماعية والسياسية، لذلك أجسّد التوثيق بين الجوهر والوجود.

فلسفة مغايرة وخاصة

ما الفرق بين الجوهر والوجود؟

الجوهر مثلاً هو الإيمان والوجود هو الإطار الديني. الجوهر هو العقائد الدينية والمبادئ الأساسية، أما الوجود فشعائر وممارسات قد تتبدل وتتغيّر. الطقس البيزنطي مثلاً في بلاد الشام غيره في واشنطن. في بلاد الشام، الصلوات يُعبّر عنها بالعربية أو اليونانية، أما في الخارج فالصلوات تجري بالإنكليزية للشباب وبالعربية للكبار نسبياً، وتتبخر أحياناً اللغة الأم لمصلحة اللغة المحكية أو الإنكليزية المكسّرة. والأمر الأخير مؤسف في نظري ويرتّب أن تقوم طوائفنا ومذاهبنا بحركة ما مسكونية تصوّب هذا المسار الذي يلاشي شيئاً فشيئاً تقاليدنا ولغتنا، ولا أخفي هنا أنني أسعى إلى مؤازرة أحد الأساقفة الأجلاء، وهو أسقف نيوتن في بوسطن بهدف إيجاد قواعد للغة العربية واللهجات المحكية معاً تُدرّس في الولايات المتحدة، وبدأت أسوّق لهذا المشروع الثوروي في الأوساط الإعلامية اللبنانية.

تطرح قريباً كتابين جديدين، يتضمنان ما سطرته عن الكتّاب وما سطروه عنك. هل تعتبرهما تتويجاً لمسيرتك الفكرية الزاخرة؟

بعدما وضعت كل كتبي المشار إليها ومنها ترجمات، وأشرفت للمناسبة على ترجمات المنشورات العربية في باريس سحابة ثماني سنوات، ونقلنا إلى العربية سلاسل مختلفة من الكتب وخصوصاً منها سلسلة «ماذا أعرف؟» شئت، تلبية لرغبة بعض الأصدقاء، أن أجمع ما سطرته عن الكتّاب وما سطروه عني في كتابين متميزين، وها أنا ذا أضع موضع التنفيذ الكتاب الثاني، وجمعت بين دفتيه كلمات من كبار عارفيي أمثال ميخائيل نعيمة والرئيس شارل حلو وشاعرنا سعيد عقل ورؤساء الجامعات الأوروبية الذين عرفوني مدرّساً في كلياتهم الجامعية وكنت في الحادية والعشرين من العمر، وأسرّ إليك هنا بأنني قد لا أكون تمكنت من لغة الضاد تمكني منها اليوم عندما درّست اللغة العربية وآدابها في الجامعات الأجنبية سحابة عشر سنوات أعددت خلالها أطروحتي دكتوراه وماجسترين. وها أنا الآن بعد أربعين سنة من التعليم الجامعي «هنا وهناك» للفلسفة واللاهوت واللغات الحية والميتة، أتقاعد ولكن الكاتب لا يتقاعد. قد يقعد ولكنه لا يتقاعد، بل تضاعفت نشاطاتي لأنني بت أقوم بما يحلو لي ويطيب، وأدير عشر أطروحات جامعية الآن حتى عن بعد.

نظراً إلى الكم الهائل مما كتبته حتى الساعة أولاني الاتحاد العالمي للسلام لقب سفير العالم للسلام، مما ضاعف تجوالي في العالم، لا سيما في كوريا الجنوبية ونيويورك.

تداخل وانقلاب المفاهيم

في كتاباتك المختلفة ثمة تداخل بين الأدب والشعر والفلسفة بحيث لا يمكن تصنيف هذا الكتاب أو ذاك، فهل تقصد هذا التداخل أم يأتي عفوياً خلال الكتابة عن فكرة معينة؟

تشيرين إلي بأنني في كتاباتي المختلفة تتداخل المواضيع وحتى الأساليب الكتابية. قد يبدو الأمر مستغرباً وبعضهم نحى باللائمة عليّ لأنني أذهب في كتاباتي أحياناً هذا المذهب. فالكاتب الفيلسوف لا يقيم في برجه العاجي ويملي على الناس آراءه في الحياة والموت بطريقة فوقية وفي مناخ من «الاستكبار» لنفسه «والاستصغار» للآخرين. وقديماً قال الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، أستاذ أرسطو وتلميذ سقراط، وعلى رغم مثاليته، إن الفيلسوف الذي لا ينزل إلى المدينة ويعرف مشاكلها ويتفاعل مع شعبها يكون فيلسوفاً فاشلاً. إذا كان الفيلسوف المثال ينطق بهذه المقولة، فبأول حجة يجب أن يطبّق الفيلسوف الواقعي أو الذرائعي أو العادي هذه المقولة، وهنا أذكر ما قاله الإسكندر عندما سأله أحد معاونيه: هل يعقل أن تقدّم أرسطو على أبيك؟ فأجاب الإسكندر وكان أرسطو معلمه: «إن أبي وضعني في هذا العالم، أما أرسطو فقد رفعني من حضيض هذا العالم إلى شاهقات الحقيقة والفضيلة».

فضلاً عن ذلك ثمة اتجاه لدى بعض الفلاسفة المعاصرين الجدد في الغرب الذين باتوا لا يضعون نظاماً فكرياً متماسكاً، كما في ما مضى، بل طفقوا يكتبون وأحياناً يضعون المقالات والشذرات الفكرية التي ظاهرها مختلف ولكنها في العمق تبتغي في هذا العالم المتعولم والمتأمرك أن تواكب العصر، بل أن تكون في طليعته، وسبق أن قال الفيلسوف الملحد جان بول سارتر: «إنني أكتب دوماً وماذا تراني أفعل غير ذلك». إنني أتبنى هذا القول لسارتر ولربما ليس سواه من الأقوال.

في كتابك الأخير «الإخفاق»، أجريت بحثاً سيكو- فلسفياً حول الإخفاق، فما أبرز الطروحات التي يتضمّنها؟

أطرح فيه مشكلة الشر والحياة بعد الموت والمواقف الإنسانية إزاء الإخفاق، وفيه على مألوف العادة توفيق بين الجوهر والوجود، والثابت أن الفلسفة الجوهرية التي سبقت الوجودية تعتبر أن كل شيء مرتبط بمطلق ما أو مبدأ أو إله أو الطبيعة... وأننا لا نستطيع أن نؤثر في النظام القائم هذا قيد أنملة، إنه تفكير تأملي تنظيري حتى إذا ركز على المادة وأساسيتها. مع الوجودية وتركيزها على الأنا من حيث هو البداية والنهاية ومن حيث الأناوي، انقلبت المفاهيم رأساً على عقب فأمسى الوجود سابقاً للجوهر وليس العكس، فنحن نوجد ثم نفكر وليس كما قال ديكارت في القرن السابع عشر: «أنا أفكر إذاً أنا موجود». أحاول في كتاباتي أن أوفق بين هاتين النزعتين المتطرفتين وسبقني في ذلك الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج.

وقد نكون أنا وكمال يوسف الحاج استلهمنا استلهاماً مباشراً وغير مباشر الوجودية المسيحية لدى كل من مؤسس الوجودية الفيلسوف الدنماركي كيركيغارد والفيلسوف الفرنسي الوجودي المسيحي المتحدر من أصل يهودي غابريال مارسيل.

دفاع عن اللغة العربية

معروف عن د. جهاد نعمان دفاعه عن اللغة العربية بكل ما أوتي من قوة وصبر جميل، حول هذا السياق يوضح: «دافعت عنها في جامعات أوروبا، ودافعت عنها في عشرات المقالات في الصحف اللبنانية، وما زلت أكتب حولها مقالات في صحيفتي «الأنوار» و«اللواء» على الخصوص، وأتوسّل في كتاباتي الطريقة السقراطية التهكمية وطريقة ارسطوفان اليوناني، حتى انني وضعت كتاباً أشدّد فيه على كيفية «استعمال حروف الجر»، فحروف الجر هي مفاصل اللغة وعندما نتمكّن من استخدامها نبلغ شوطاً كبيراً في التضلّع من اللغة، فالرغبة في الشيء غير الرغبة عن الشيء والطلب من العبد غير الطلب إلى الله وهكذا...

أضاف: «بناء على طلب شاعرنا الكبير سعيد عقل درست، إلى جانب اللغة العربية اللغة اللبنانية- السورية وحاولت إيجاد قواعد لتلك اللغة، وهذا الأمر ليس بالسهل، فنقلت إلى العربية اللبنانية «دفاع سقراط» وهو الكتاب الثاني في سلسلة ما كتبه أو ما وضعه في إطار أجمل الكتب في العالم. إلا أنني سرعان ما تيقنت من أن المشروع رغم أنه مثالي صعب التحقيق لأسباب أراها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، فلهجة طرابلس تختلف عن لهجة زغرتا، والمسيحيون في مسقط رأس والدتي صور لهجتهم غير لهجة الشيعة، كما أن لهجة أبناء البقاع غير لهجة رأس بعلبك المتاخمة، فهل ما يسعى إليه البعض هو بابل جديدة صنع لبنان الألف الثالث؟!».

ختم: «يمكنني القول هنا إنه تنبغي محاولة التوفيق بين اللغة الفصحى «الجوهر» واللهجات المحكية. أعني أنه لا بأس من تطعيم الفصحى ببعض من اللهجة المحكية، ولكن العكس صحيح منذ أمد بعيد».