الكاتب في بداياته لا يستشعر الثقة فيما يكتبه، ويود دائما أن يسمع رأي الآخرين في كتاباته، ومن يبين له الجوانب الجيدة والضعيفة في نصه، بسبب الخوف من البدايات ومن المقارنات مع الكتابات الأخرى، هذه الحالة ربما تستمر مع الكاتب حتى وإن بات معروفا ومشهورا يحتاج إلى أن يأخذ برأي أقرب الناس إليه ومن يثق بتذوقهم الأدبي والفني.

أنا ما زلت حتى الآن أحب أن أسمع رأي من أثق بحساسيتهم الفنية العالية بنصوصي، لأن الكتابة جرافة مهولة تجرف الكاتب إلى مطارح واتجاهات متنوعة خلال انهمار الكتابة وانغماسه بملاحقتها، مما يقوده إلى اكتشافات جديدة هو محتاج إلى معرفتها واكتشافها وتلمس جمالياتها والتعرف على مداركها وفهمها.

Ad

الكتابة حالة من البحث والتلمس والفهم والإدراك، استبصار المجهول بفجر مستقبله، قبل أن يولد وقبل أن يستقبله أحد، الكتابة استنارة مدهشة غير متوقعة، لا من الكاتب ولا من الآخرين.

"الدوس" والمشي في المجهول عبور يقود إلى كشف بدائي نيئ لم يُطرق ولم يُعدن من قبل، هو مهمة الكتابة الإبداعية المتخلية عن أشكال ماضيها بلباسها الإبداعي الجديد.

الكتابة المبدعة هذه في حاجة للفهم ولمعرفة أسرار وهجها وطبيعة عجينتها، خاصة عندما لا يوجد ما يشبهها ولا ما يناسبها من القوالب السابقة الجاهزة في "الاسطمبات" المتعارف عليها، مما يصعب فهمها ومقارنتها بالمقاييس الموجودة.

هنا حيرة الكاتب تكبر أكثر، خاصة عندما يكون يافعا وفي بداياته لا يدرك قيمة ما أتى به من إبداع، لا يوجد مقياس سابق له، فبأي مقياس يقيس به جودة عمله؟

وبأي معيار سيطمئن إليه قلبه ويأخذ به كعلامة جودة تكافئ عمله مع التزام وتشبث النقد بكل مدارسه ومعاييره التقليدية للقياس الفني والأدبي؟... خاصة في عالمنا العربي الذي لا يقبل بالاختلاف ويخافه ويتندر ممن تقبل به.

الكاتب بعدما يتخطى مرحلة حيرته وخوفه من جديدة المختلف سيدرك ويكتشف بذاته ما أتت به كتابته من إبداع لا يُقاس بقياسات القوالب السابقة.

ومع هذا يحتاج إلى من يتوسم بهم التفرد والاختلاف بذائقتهم الفنية ليكتشفوا معه غوامض ومجاهل الإبداع الجديد، لأن الكتابة حالة جرف عظيمة التوليد.

إن كان الكاتب قد توصل إلى مرحلة عالية في فهم العمل الفني الإبداعي، أيضا هذا لا يمنع من الاستئناس بأخذ رأي الآخرين لمزيد من إيضاح وكشف غوامضه.

المشكلة مع الكاتب المبتدئ تكون حيرتها أعظم وأكبر لفهم ما أتى به، خاصة عندما تكون كتابته هي نصه الأول، حينها سيلجأ إلى الكتاب والنقاد المشهورين لتقييم عمله، وهذا أمر لا بأس به لأنهم سيرشدونه ويعرفونه بنواقص أو بجودة عمله بعد قراءته.

قرأت مقالاً لزميل نصح كاتباً شاباً جاءه بروايته الأولى ليقيمها له، فبين له الكاتب أسرار الكتابة الروائية وشروط نجاحها بالاهتمام بالزمان والمكان والشخوص والتقنية، إلخ.

فخرج الشاب من عنده دون أن يعطيه الرواية، لأنه كتبها بتلقائية وعفوية دون التقيد بما قاله الكاتب، وعندما سمع نصيحته قرر أن يعيد النظر فيما كتبه.

الروائي كان صادقا وأمينا في نصحه، لكنه ربما قضى على حالة إبداع جديدة سيقوم كاتبها بتدميرها، ليطبق شروطاً كتابية قد تكون ليست لازمة لنصه.

كنت أتمنى لو أنه أخذ رواية الشاب، واطلع عليها، ثم بين له نواقصه إن كانت هناك نواقص أو جودة نصه، قبل أن يسدي له النصائح.

عندما حملت نصوصي المكتوبة في 10 سنوات ومخبأة في أدراجي إلى الكبير إدوار الخراط ليقيمها، لم يسألني عن طريقة الكتابة، ولم يبين لي شروطها، أخذ نصوصي بكل مودة، وقال: سأرد لك خبرا بعد أسبوعين، لكنه فاجأني بعدها بكتابة دراسة عنها كلها، وتقبلها كما هي بدون أي شروط أو قوالب كتابية، تقبل اختلافها بكل فرح ومحبة، وجد في هذا الاختلاف جدة وطزاجة بحسب تعبيره، ولم يقيدني بالقوالب المتعارف عليها في الكتابة.

وهذا لا يعني إلغاء قواعد أسس العمل الأدبي الفني وشروطه الجمالية، لكن قد تكون هناك سكك وطرق مختلفة تؤدي للوصول إلى صياغات جديدة بعجين يولد حداثة لحساسية إبداعية مختلفة.

عموما الكاتب الموهوب يحمل في داخله عوامل البناء الفني الصحيح وشروطه من دون وعيه الكامل بها، وهذه نعمة الموهبة الكامنة به ومعناها.