المشكلة بنيوية وليست في الناخب
الانتخابات العامة لدينا تبتعد عن كونها صراعا سياسيا لمصلحة الناس والمجتمع، إذ تمثل في الغالب صراعا بين مراكز النفوذ، وطموحات شخصية لأفراد انتهازيين يستيقظون فجأة وقت الانتخابات بحثاً عن الثراء السريع والوجاهة الاجتماعية مع أنهم يجهلون ماهية العمل السياسي ومتطلباته.
الانتخابات العامة في الدول الديمقراطية تكون عادة فرصة لنقاش مجتمعي عام حول المشاكل التي يعانيها الناس والمجتمع، ومعرفة البديل الذي يطرحه كل حزب من الأحزاب السياسية التي تخوض الانتخابات وذلك لمعالجة المشاكل العامة من ناحية وكيفية تطوير المجتمع من ناحية أخرى، إذ لا ديمقراطية من دون أحزاب، ولا ديمقراطية من دون تعددية، وحريات، وفصل سلطات، وتداول سلمي للسلطة التنفيذية كي يستطيع البديل الفائز الذي اختاره أغلبية الناخبين أن يُنفّذ برنامجه.لهذا فإن الانتخابات العامة تكون بالفعل صراعا سياسيا راقيا يناقش خلاله حاضر الوطن ومستقبله، حيث يخوضها ويديرها ساسة محترفون، أي أفضل ما لدى المجتمع من ممارسي الشأن العام، يتكتلون أحياناً ضمن قوائم قد تُشكّل في ما بنيها جبهات سياسية ببرامج مُشتركة. وهناك بالطبع قوانين عامة في مقدمتها قانون انتخاب عادل يضمن الحق المتساوي لجميع أفراد المجتمع، وهناك أيضاً قوانين أخرى وقواعد ديمقراطية متعارف عليها تنظم كيفية ممارسة المنافسة السياسية، سواء بالنسبة إلى تغطية وسائل الإعلام المملوكة للدولة لضمان عدم انحيازها لطرف ضد آخر، أو مضمون الشعارات التي تُرفع أثناء الحملة الانتخابية حيث يُحظر حظراً باتاً رفع شعارات دينية أو استخدام دور العبادة والمنابر الدينية في الحملات الانتخابية، أو بالنسبة إلى حجم المبالغ التي تُصرف على الحملة الانتخابية، حيث يحدد سقف معين يناسب الجميع مع ضرورة إطلاع هيئة مراقبة الانتخابات أو هيئة "النزاهة" على ما يثبت مصادر تمويل الحملات الانتخابية.
أما لدينا فالانتخابات العامة تبتعد عن كونها صراعا سياسيا لمصلحة الناس والمجتمع، إذ تمثل في الغالب صراعا بين مراكز النفوذ، وطموحات شخصية لأفراد انتهازيين يستيقظون فجأة وقت الانتخابات بحثاً عن الثراء السريع والوجاهة الاجتماعية مع أنهم يجهلون ماهية العمل السياسي ومتطلباته، فضلاً عن المناكفات السياسية التي لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بمشاكل المجتمع ومستقبله، وكل ذلك نتيجة لعدة أسباب من ضمنها الفوضى السياسية وعدم تنظيم العمل السياسي وإشهاره، بل يغلب الطابع الفردي لا السياسي على الانتخابات وتُستخدم في أثنائها شعارات غير سياسية تصلح للدعايات التجارية. علاوة على وجود نظام انتخابي سيئ وغير عادل يقلّص القاعدة الانتخابية للفائز في الانتخابات إلى حدها الأدنى، فيُسهّل عملية استخدام المال السياسي، ولا يسمح بوجود قوائم انتخابية وتكوّن كتل برلمانية في ما بعد، هذا ناهيك عن عدم وجود سقف للمبالغ المالية المستخدمة في الحملة الانتخابية، وأيضاً تقييد الحريات العامة، وعدم حظر عملية استخدام شعارات دينية وطائفية وفئوية أثناء الانتخابات تدغدغ عواطف الناس فلا يصوتون على أساس سياسي وطني، بل ضمن استقطابات حادة وغير صحية تُفتت النسيج الاجتماعي الوطني. وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن الدستور لا يُجيز تداول السلطة التنفيذية، ولا تتوافر الآن متطلباتها الأولية فإنه لا قيمة لأي برنامج انتخابي جاد يطرحه مرشح وطني وذلك لاستحالة تنفيذه في حال نجاحه. وبناء على كل ما سبق، يتضح أن المشكلة لدينا بنيوية، وهو الأمر الذي يُبيّن تهافت الرأي الذي تروج له وسائل إعلام مُظللة ومُدلّسة وهو أن "الديمقراطية لا تصلح لنا"، أو أن "العلة" في الناخب الذي "لم يُحسن الاختيار"!