فوزي يمّين في {في انتظار الانفجار الآتي»... محبرة واسعة متعدّدة الظلال
في زمننا العربيّ هذا المتْخَم بالإصدارات الأدبيّة، وتحديداً الشعر الحديث والرواية، يجد القارئ متعة حين يتصفّح كتاب نثر فنّيّ، فينتقل من نصّ الى آخر وهو يعيش الدهشة، ويرجو بقاء هذا النوع من الكتابة بعد ما حلا للكثيرين تسمية كلّ جملة نثريّة جميلةٍ قصيدة.
«في انتظار الانفجار الآتي» يواصل الشاعر والأديب فوزي يمّين تطوير جملته النثرية شاهراً الحياة بقلمه الخبير في أكل أكتاف المعاني التي تبدو عادية جداً إلّا أنّه ينقلها من ضفة العاديّ إلى ضفة الاستثنائي بكثير من البساطة والاتساع والعمق بعيداً من الطلسمة، إذ هو يعرف أن يجود بنِسَب معيّنة من الضباب على صدور كلماته.
«في انتظار الانفجار الآتي» يواصل الشاعر والأديب فوزي يمّين تطوير جملته النثرية شاهراً الحياة بقلمه الخبير في أكل أكتاف المعاني التي تبدو عادية جداً إلّا أنّه ينقلها من ضفة العاديّ إلى ضفة الاستثنائي بكثير من البساطة والاتساع والعمق بعيداً من الطلسمة، إذ هو يعرف أن يجود بنِسَب معيّنة من الضباب على صدور كلماته.
يعلن الشاعر والأديب فوزي يمّين في الصفحة الأولى من «في انتظار الانفجار الآتي» أنّ جديده يشبه فوضى الحياة اللبنانية، بما فيها من تنوّع هموم ومعانٍ لا يجمعها سوى الانتماء إلى الحياة: «تماماً كعبثيّة الأوضاع التي تجتاحنا، وفوضى الحياة التي نعيش». ويتوجه إلى قارئه مُهدياً إليه البوصلة التي ستقوده في العوالم اليمّينيّة حيث تتعدّد المناخات ويختلف مزاج الحبر من عنوان إلى آخر: «ستهبّ عليك رياح وجدانية، وانطباعات شخصية، ولطشات نقدية، وتحليلات رياضية، وكلمات مناسباتية، وترجمات لأغان وقصائد، وقصص أسهمت في تكوين ثقافتي وتلوين حياتي». إذاً، هذا هو فوزي يمّين الذي لا تأسره دائرة على مستوى الهمّ الكتابي، إنما هو يغمس قلمه في مزاجه ويبريه على هواه متنقلاً من حديقة معانٍ إلى أخرى، ولا مشترَك بين هذه الحدائق سوى أنها صحيحة النّسب إلى الربيع.
لحظات سوداء
في مقاله الأول «في انتظار الانفجار الآتي»، وبلغة غير مفخخة يرصد يمّين لحظات سوداء، لحظات دهرية، تسبق الانفجار وتتزامن معه وتليه، كما يسجِّل بأمانة ما يشعر به أسرى المتاهة عابراً المشهد القاتم بعينين تحاصرهما خطوط وألوان طاعنة في الجريمة، تائهة في المسافة الضائعة بين القاتل والقتيل: «يطير في الجوّ الولد. يطير في الجوّ ويخبط على سقف سيّارة قريبة منه. يطق ظهره، وتُسمع الطقة بوضوح، ثم بعدها يُسمع دويّ انفجار. سيارة مفخخة. الولد يسقط على سقف السيارة المفخخة». ويكمل يمّين امتحان ظلاله الحزينة في محبرته الواسعة، وفي «أنا المنتحر أدناه»، ينسحب من دورة الحياة ويلوذ بمشيئة الانتحار، ساخراً من كلّ ما يُرى ولا يُرى، مُسلماً نفسه لحزام ناسف أو لمقعد سيارة على أهبة الانفجار، سائراً نحو حوريات لا يشبعن لحم بشر ولا يرتوين دماءً: «أخيراً أفجّر نفسي. وأطير في الجوّ. تتلقّفني الحوريات الجميلات، الجائعات. اللواتي يأكلن ولا يشبعن، يتناتشنني. كلّ واحدة تريدني لها وحدها». هكذا هو يمّين يرتقي من العين إلى الخيال، إلا أنّ خياله هو أبداً مشدود إلى الأرض، ولا يسمح له بأن يكون بريئاً من الحقيقة وغير وفي لها. وفي «خيط رفيع جداً»، يواصل يمّين رغبته في التواري وتوقه إلى التلاشي هرباً من جُزُر الفجيعة، أو تجذيفاً غير مباشر نحوها، فهو يحلم بأن يستيقظ يوماً ولا يجد نفسه: «وتنزل إلى الشارع سائلاً: بونجور، هل رآني أحد؟ هل مررت اليوم على المقهى ببنطلون جينز وسيجارة مرخيّة من شفتيّ تاركة ظلاً واهياً على جيب قميصي؟»... وإلى «الانحباس الحراري» ينظر يمّين نظرة مختلفة، فهو يجده ذا نفع كبير وحامِل مَنٍّ وسلوى إلى اللبنانيين إذ إنّ الناس كلّهم سيتّقون الحرّ بالعراء وبالعراء وحده يتساوى اللبنانيون الذين فقدوا كثيراً من المشترك بينهم وباتوا على مختلف المستويات خير مثال للاختلاف والخلاف والفرقة: «ثم الانحباس الحراريّ في لبنان مفيد جداً. أكثر من إلغاء الطائفية السياسية، واتفاق الطائف...» لأن الناس ستنجو من نقل الثياب الشتائية: «لتطلع الناس من ثيابها، ولتَتَعَرَّ وتمشِ على الطريق كما خلقها ربُّها، وسبحان الربّ الذي خلقها! تصوّر البشرية تمشي عارية، نصبح جميعاً متشابهين»...
أنسي الحاج
وتحت قناطر الوفاء للكلمة ذات الشعر الطويل يسترجع يمّين ظلال أنسي الحاج على شرفات الحبر الأنيق، ويعترف بصدمته الجميلة حين قرأ «لن» لشاعر الحرية: «حين قرأت «لن»، للمرّة الأولى صُدمت»، ولهذه الصدمة ما لها في وجدان يمّين الشاعر كأنه كان أمام مرآة حدسه منتظراً من دون أن يدري جُملته الشعرية الآتية غداً: «دفنت وجهي خوفاً بين دفّتي الكتاب، وتمتمت بشفتين متلعثمتين: نجّني يا ربّ من هذا الدفق الشعوري، الشحْن اللغويّ. التلاعب الحرّ بالكلمات والصّور»... ويمضي يمّين نحو سعيد عقل معترفاً وشاهداً له بأنّه لعب لعبة الشكل إلى نهايتها، محترفاً العزف بأزاميل الجمال على جسد القصيدة الموشوم بنغم غريب: «كان سعيد عقل متطرفاً بالشعر إلى حدّ أنه غدا أكبر مهندسيه الشكلانيين الذين رفعوه إلى أعلى مراتب الجماليّة لحناً وموسيقى».أنطوان السبعلاني
وفي فيء قصيدة معلمه الشاعر أنطوان السبعلاني يمدّ يمّين يده إلى خوابي الماضي مالئاً جيوب كلماته بزبيب الوفاء وجوز الدهشة ولوزها. فالسبعلاني من محرِّضي قفير القوافي على الغليان في خاطر يمّين، ومن مشجعيه على الإبحار في ماء القصيدة الذي لا يخبئ تحته سوى الغرق: «لم يطلع الشاعر أو أديب أو فنان في منطقتنا إلا وفيه «لطشة» منك، ورائحة من حبرك في حبره». ومن ضفة النثر ينتقل يمّين إلى ضفة القصيدة ليواصل وفاءه للسبعلاني: «آتٍ إليك وفي يدي وجع الهوى/ من يحمل الأوجاع لا يتألمُ.../ تتلعثم الأفواه يا ويح الهوى/ من عاشقيه إذا التقوا وتلعثموا»...كرة القدم
ليمّين مع الفوتبول حكاية تطول وهو المحترف كرة القدم وكرة القلم في آنٍ، وخصّه بالجزء الأخير من كتابه الذي وإن استُهلّ بلغة الموت فقد أُسدِل ستاره على لغة الحياة تهجّئها الأقدام المبدعة على صفحات العشب الأخضر. ويرسم لاعب الكرتين مشهد الفوتبول واسعاً، مستحضراً أسماء علم وتواريخ ومشجعين وطقوساً، داسّاً بين المفردات نكهته الخاصة، مجتازاً العين وتسجيلاتها وحساباتها إلى ما هو يمّيني من حيث النّفَس الكتابي: «... تجلس شعوب صموتة لمشاهدة فريق لا يفوز أبداً. كما تتحول إلى ما يشبه الاحتفالية الطقوسية فتذكّر بالقبائل التي كانت تنشد المطر والتراب. وتبدو في جانب منها رياضة ايروتيكية مثيرة للنشوة لما لها علاقة بعضلات اللاعبين وسراويلهم الضيقة وشعورهم الطويلة»...«في انتظار الانفجار الآتي» كتاب يعرف كيف يسرق قارئه وينهب وقته وهو في غاية القناعة، ويجعله منتظراً بشوق انفجاراً آخر آتياً، بحبر جميل، لا بدم كي لا يتحوّل أسود الحبر حداداً.