بداية، يجب تأكيد أنه لا يوجد معنى محدد ومتفق عليه لعبارة؛ فكر هدّام. وانه عبر التاريخ البشري، كان هناك على الدوام فريقان متواجهان، كلاهما يؤمن بأنه صاحب الفكر البنّاء في مواجهة الآخر صاحب الفكر الهدّام.

إن قضية مواجهة الفكر الهدّام، كانت وستبقى جزءاً أساسياً وجدلياً من العيش البشري، ففي كل زمان ومكان كانت السلطة/ أي سلطة ترى فيمنْ يأتي بفكر جديد يهزّ ويناهض ويخالف فكرها بأنه صاحب فكرٍ هدّام. وهي تعتقد أنه بوقوفها بوجه معارضيها، أصحاب الفكر الهدّام، إنما تخوض حرباً مقدّسة لحماية ثوابت الأمة، وتزجي خدمة كبيرة لكيانها ولأبناء شعبها، وهي بتلك القناعة لا تتوانى عن تجيّش كل طاقاتها لملاحقة وسحق كل من يقف في وجهها، متخذة من مقولة؛ محاربة أصحاب الفكر الهدّام شعاراً يبرر كل أفعالها. وليس أدل وأوضح من أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء بفكر جديدٍ مختلف وبدأ يتحرك في دائرة قومه، فإنهم عارضوه وحاربوه بكل الوسائل، حتى أنهم أجمعوا على قتله، مما أضطره، صلى الله عليه وسلم، إلى الهجرة بدين الله وإلى أن مكّن الله لدينه.

Ad

يجدر الوقوف أمام حقيقة مهمة، هي أن محاربة الفكرة الجديدة دائماً ما تتغطى بلباس خادع عنوانه العريض؛ مواجهة الفكر الهدّام، وأن ذلك لا ينطبق فقط على معارضي السلطة الحاكمة، لكنه يشمل كل السلطات، بما في ذلك السلط؛ العلمية، والفكرية، والإبداعية، والسياسية، والاجتماعية، وحتى المالية.

إن قيام السلطة، أي سلطة، بمعارضة والوقوف في وجه كل منْ يخرج عن فكرها السائد والمستقر وعن توجهها العام، يُحيلنا إلى رؤية الوجه الآخر من العُملة. وجه أولئك الشجعان المتفكّرين الذين يأتون بأفكار جديدة ومغايرة. أفكار تمتلك جراءة الخروج على استقرار ونمطية وصنمية الفكر السائد. هؤلاء المتفكرون يخوضون حربهم المقدسة متيقنين من كونهم أصحاب فكرٍ جديدٍ، وأنهم يواجهون فكراً راكداً وبائساً يتوجب الخروج عليه، وهم بذلك لا يتوانون عن التضحية بالكثير من عيشهم دفاعاً عن أفكارهم وقناعاتهم الجديدة، حتى لو وصل الأمر ببعضهم إلى العقاب والنفي، وربما الموت دون فكرته. والأمثلة في التاريخ أكثر من أن تحصى في شتى مناحي الحياة.

الفن مرهم الحياة

إن عنوان المحاضرة؛ "الكتابة في مواجهة الفكر الهدّام"، يقرّ بأن المواجهة المراد الحديث عنها هي مواجهة فكرٍ بكتابة، فكر بفكر. ومؤكد أن الكتابة تشير إلى معنى شاسع، يشمل العلم والفكر والإبداع والفلسفة والفنون. وبالنظر إلى أنني منذ قرابة أربعة عقود أتخذ من الثقافة والإبداع، وتحديداً فن القصة القصيرة والرواية وشيئا من النقد فكراً أتعامل معه وأقرأ وأكتب به، فإنني سأختصر حديثي عن مواجهة متخيلة بين فكرٍ أرى أنه هدام، وبين كتابة إبداعية مسالمة.

إن أعظم ما يمكن أن يقدمه الفن؛ قصة، وقصيدة، ورواية، ولوحة، وفيلم، ومسرحية، وأغنية، هو أن يخاطب المتلقي لينتزعه من لحظةِ وجوده في مكان وزمان محددين، لينتقل به إلى عالم آخر، هو عالم فني متخيل. يحاكي الواقع لكنه يبقى متخّيَّلاً.

الواقع الإنساني قائم على قوانين ومعادلات قاسية تكسر كل من يحاول الخروج عليها وتجاوزها. وحياة كل إنسان مرتهنة لصعوبات متفاوتة، وهي بذلك قليلة الإرضاء، وتلتم على شيء من ألم وربما خيبة وانكسار، لذا فإن مهمة الفن المقدسة عبر ما يصوّره من أعمال أدبية وفنية، هي تقديم نماذج حياة بديلة مغامِرة. نماذج تستلهم جذرها من الواقع لكنها تبقى متخيلة، من صنع خيال ولغة الكاتب، لذا فإنها تمتلك القدرة على كسر قوانين الواقع، وخلق قوانينها الخاصة. هذه النماذج من خلال تقديمها لسير حياتها، إنما تُلهم وتناقش المتلقي في فكره وقناعاته ومشاعره، إضافة إلى امتاعه. هذا يساعد الإنسان على كسر وحدته والخروج من معاناة واقعه الضيق والاندماج بتجربة الآخر المختلفة. مثلما يجعله يمتلك خبرة حياة أوسع، وبالتالي يدخل شيء من الرضا إلى نفسه، ويعينه على تحمل عيْش واقعه الشخصي الصعب، وتحمّل مراراته.

الفن وفق الفهم أعلاه هو مرهم الحياة الذي لا يمكن للإنسان الاستغناء عنه ما بقيت الحياة، فلن يأتي يوم تكون فيه الحياة عادلة ومنعّمة لجميع البشر، بدون أي طبقية، وبدون أي أمراض اجتماعية، لذا سيبقى الإنسان أبداً عرضة للتوزع والوجع وعرضة للألم، وستبقى أبداً حاجته للفن كي يساعده على فهم قوانين الواقع وربما محاولة التأقلم معه.

• محاضرة غير منشورة، قُدمت في معرض الشارقة الدولي للكتاب.