تمر علينا هذه الأيام الذكرى الرابعة والخمسون لإصدار دستور 1962 الذي كان يُعبّر في تلك المرحلة التاريخية عن عملية توافق وطني عام أملته توازنات داخلية بين قوى اجتماعية-اقتصادية، بالإضافة إلى ظروف خارجية كانت ضاغطة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما ترتب عليها من نتائج وموازين قوى عالمية جديدة، وتهديدات خارجية (تهديد عبدالكريم قاسم باحتلال الكويت)، علاوة على ما شهدته تلك الفترة من بروز قوي لحركات التحرر الوطني على نطاق واسع في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

لقد وضع الدستور الأسس الأولية للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وكان من المفترض أن يطوّر بعد خمسة أعوام من إصداره، وذلك للمزيد من ضمانات الحرية والمساواة، ولكن ذلك لم يحصل، بل على العكس سرعان ما اختلت موازين القوى الداخلية، وتغيرت الظروف الخارجية، فتمّ التراجع عما ورد في الدستور عام 1976 عندما تجاوزت السلطة الدستور وقامت بعطيل الحياة البرلمانية.

Ad

ومع ذلك فقد كان لوجود الدستور دورٌ حاسمٌ في مراحل تاريخية مفصلية، في مقدمتها تحرير وطننا من الغزو العراقي الغاشم، حيث كان هناك إجماعٌ وطنيٌ رائعٌ من جميع المكونات السياسية والاجتماعية على التمسك بالشرعية الدستورية والدفاع عنها، وذلك بعد المزاعم الباطلة التي أطلقها الطاغية صدام، ووجدت لها صدى لدى الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتران" الذي دعا، باعتبار فرنسا عضواً دائماً في مجلس الأمن، بأن يُترك القرار للشعب الكويتي كي يُقرّر مصيره، فأتى صوت الشعب مدوياً في مؤتمر جدة الذي عُقد أثناء الاحتلال الغاشم في شهر أكتوبر 1990 عندما أعلن تمسكه بالشرعية الدستورية. ليس ذلك فحسب بل برزت أهمية وجود الدستور أيضاً في المحافظة على الاستقرار السياسي عندما استند إليه مجلسا الوزراء والأمة أثناء "أزمة الحكم" عام 2006، وقاما بتفعيل المادة الثالثة من قانون توارث الإمارة.

وإذا كان من المفترض أن دستور 1962 هو توافق وطني عام حول قواعد وأسس نظام الحكم الديمقراطي الذي تكون السيادة فيه للأمة، ويتساوى المواطنون أمام القانون باعتبارهم مواطنين دستوريين، وتتم المحافظة على الحريات وحمايتها، وتتحقق العدالة الاجتماعية، فماذا يا ترى بقي من نصوص الدستور وروحه بعد أن اختلت موازين القوى، فترتب عليها حالة التراجع الديمقراطي، وتهميش المؤسسة التشريعية، والسياسات الاقتصادية المنحازة الواردة في خطط الحكومة ووثيقتها الاقتصادية التي تتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية، والقوانين المقيّدة للحريات، والسياسات الفاشلة التي نتج عنها تفتيت النسيج الاجتماعي، وإحياء هويات ثانوية كانت موجودة قبل تشكُّل الدولة الحديثة؟!