إن من أوائل الدروس الحكيمة التي كانت تُلقن لنا عن الحب هو أن نحب بجنون القلب وعقلانية العقل، هذا الدرس الحكيم أظنه أحمق درس عن الحب حفظناه على الإطلاق، جنون القلب وعقلانية العقل خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، سيبقى كل منهما يحاول أن يفرض إرادته على الآخر، سيكون القلب خيلا جامحا والعقل بمنزلة الرسن، وسيظل هذا الصراع مستمراً بين الجموح والترويض إلى أن يفرض الجموح تمرده، أو يفرض الترويض سوطه، بيئة الحرب هذه بين القلب والعقل لن تكون صالحة لنماء زهرة حب، وتطرّف القلب لن يقنعه منطق العقل، فالحب ليس مجرد فكرة، إنه شعور، لهذا يبدو الدرس الحكيم أعلاه ساذجا وغبيا،

أما إذا كان المقصود تغليب إرادة العقل على إرادة القلب، حتى تأمن من الحب، فهذا ليس حبا إنما صفقة أمان، في الحب لا يمكن لمحب، بأي حال من الأحوال، أن يمنح الأمان لنفسه، الشخص الوحيد القادر على ذلك هو من يحب، فجوهر الحب ألا تبحث عن الأمان بل تحصل عليه، وبرأيي بهذه الطريقة يوثّق الحب منذ اللحظة الأولى في شهادة ميلاد العلاقة، الحبيب فقط الذي يبعد عن صدر من يحب وسواسه الخناس بتعاويذ محبته له، وهو الوحيد القادر على إيواء قلبه من الأذى، ومحاولة اتقاء جنون قلبك بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة لا يزيد القلب إلا جنوناً، ومحاولة تقييده بحبال العقل الغليظة تقتله، ولا تبدو الخيارات أفضل حالاً في حال ترك جنون القلب يقود "عربة العمر"، لأنه قد يرمي بالعربة إلى التهلكة، كذلك لو تركنا القيادة المطلقة للعقل لرمى بعربة الحياة إلى التهلكة!

Ad

الحب ليس أن نحب بجنون القلب وعقلانية العقل، بل أن نحب بعقل القلب وبجنون العقل، الحب إرادة القلب وليس إرادة العقل، عقولنا معبأة ضد الحب منذ الصغر، هو عيب الأنثى وضعف الرجل، هذا ما كانت تقاليدنا ومعظم نتاج ثقافتنا العربية تغرسه في عقولنا قبل حتى أن تعي قلوبنا، فإذا كان الحب إرادة القلب فكيف نولّي عليه من هو معبّأ ضد الحب؟! نغلّب العقل في كل أمور حياتنا إلا في الحب، الحب وحده فقط الذي يغيّر شروط لعبتنا مع الحياة، حيث أمر القلب نافذ وإرادته غالبة، وهنا تحديداً المأزق الكبير في الحب، وهنا أيضاً مكمن جماله إن سلكنا طريق الصواب، فالذين أحبوا بجنون قلوبهم كثيراً ما أدميت قلوبهم، وكان عليهم أن يحبوا بعقول قلوبهم فالقلوب تعقل، ولكن "لهم قلوب لا يعقلون بها".

ومن عظمة الحب أنه يقلب الأدوار بين العقل والقلب، ويصيب العقل بالجنون، ويعقل القلوب، ويفكر العقل بطريقة تخالف طبيعته، وربما كان ينعتها بالجنون، أما ادعاء أن العقل كان غائباً فهذه تهمة لا تليق بجمال الحب، فالعقل لم يكن غائباً إنما هو تحت قيادة القلب، وهذا هو فعل الحب، أن يبقى القلب حارساً للعقل من طيشه وليس العكس، إن العقول المجنونة قد تؤذي من تحب، والقلوب العاقلة تحمي من تحب من أذاها، أما القلوب التي لا عقل لها فهي تؤذي الحب!