إيران... في عواصم العرب

نشر في 10-11-2016
آخر تحديث 10-11-2016 | 00:15
 خليل علي حيدر هل الكتلة العربية السنية المجاورة لإيران في المشرق تتزعزع حقا، وبلدانها تتفكك وتتعرض اليوم لمخاطر لا حصر لها؟ وهل انتخاب الرئيس "ميشيل عون" حليف حزب الله في لبنان، وبدعم اضطراري من زعيم سنة لبنان، الشيخ "سعد الحريري"، انتصار إيراني، وفوز شيعي آخر، على هذه "الكتلة السنية المشرقية"، التي تجد نفسها رغم ضخامتها وثقلها، تتقاذفها المخاطر السياسية والتهديدات؟ لا أحد يدري إلى أين يقاد السنة والشيعة معاً في هذا المحيط العكر المليء بالمخاطر!

يقال إن الكثرة تغلب الشجاعة، ولكننا في حالة "المشرق العربي" نرى العكس، فقد هيمنت إيران على العراق واليمن ولبنان وسورية وغيرها، أما مصر فغارقة في أزمة اقتصادية قاسية، قد تخدم في النهاية الإخوان المسلمين والمتشددين والإرهابيين. والتزعزع المصري يضعف حتى موقفها في دعم هذه "الكتلة المشرقية" المهددة، لمصلحة أي امتداد للنفوذ الإيراني، وهناك فوق ذلك انقسام مصري- تركي حاد منذ الإطاحة بنظام الإخوان في مصر، يعرقل بدوره أي تكتل مذهبي يبطئ المسيرة الإيرانية.

وتعاني دول الخليج مشاكل مالية بعد انهيار أسواق النفط ومحاولاتها إقامة اقتصادات بديلة، كما أن موقف هذه الدول الخليجية من الجمهورية الإسلامية ليس متماثلاً، بل ربما احتاجت بعض هذه الدول إيران في توازناتها الإقليمية!

ولا يخفى أن الدولة الكبرى في هذه المجموعة، أي المملكة العربية السعودية، في مخاض عسير وحرب داخلية شرسة ضد الإرهاب، فيما تعيش جملة تحولات سياسية واجتماعية، وعلاقات متوترة مع الحليف الأميركي وتهديدات قانون "جاستا"، الذي يعتبر المملكة مسؤولة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وعلى المملكة أن تدبر أمورها في كل هذه التعقيدات، في حين تجد نفسها في صراع واسع مع أكثر من دولة محيطة شمالا وجنوباً، فهل تستطيع تركيا تزعم "الكتلة المشرقية السنية" إذاً، والتصدي للسياسات الإيرانية؟

ولا شك أن تركيا دولة أطلسية قوية ولها جيش متقدم لا جدال في قدراته، كما أن تركيا اليوم رغم كل شيء نظام ديمقراطي ناجح، ولكن تركيا بدورها تعاني المشكلة الكردية التي تهدد كيانها الجغرافي أكثر بكثير مما تهددها إيران، وتركيا كغيرها من دول المنطقة مهددة بالأعمال الإرهابية، وبمخاوف الرئيس "إردوغان" الحقيقية والخيالية من الغرب، ومن الداعية "غولن"، ومشاكل تغيير الدستور، وذيول انقلاب 15 يوليو 2016، الذي نجم عنه اعتقال عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين، ولا نعرف على وجه التحديد ما الأثر الذي تركه على الجيش التركي الشديد الاعتزاز بكرامته، وما الفاتورة السياسية والاقتصادية لكل هذه الاعتقالات.

انتصارات إيران في الدول والعواصم العربية، وآخرها في لبنان، قد تتلوها انتصارات على "داعش" في العراق، وهيمنة كاملة على سورية واليمن، وما يتيسر من نفوذ في الدول والتجمعات الخليجية بالمزيد من المناورات ومن اعتصار الورقة المذهبية وغير ذلك من أدوات هذه الانتصارات على هذه "الكتلة السنية المفككة"، التي تعاني عللا كثيرة، وتتنوع همومها ومصادر شكواها، قد تبهج أنصار سياسة التدخل في الشؤون العربية، وتضعف الإيرانيين والشيعة المحذرين من عواقبها، لما لها من نتائج ومخاطر كبيرة قد لا تظهر فوراً، وبأثمانها السياسية والاجتماعية المذهبية الكارثية!

وما من عاقل وباحث موضوعي إلا ويدرك جيداً أن "الجمهورية الإسلامية" لا مصلحة لها في كل هذا الاكتساح، ولا تحمل بنيتها الاستراتيجية أن تهيمن على المنطقة العربية مهما استفادت من واقع الانقسام العربي والسني!

ونحن نعرف في التجربة التاريخية أن دولة كمصر عاشت "مجتمعاً شيعياً" في ظل الدولة الفاطمية ما بين 969-1171 ميلادية، قرابة قرنين، حكم مصر خلالها الكثير من الحكام، وتأسس الأزهر، وانتشر التشيع، ثم عادت مصر إلى ما كانت عليه، مستردة مذهبها الأول السابق على مجيء الفاطميين.

أهل السنّة في العالم العربي والذين يشكلون تسعة أعشار المسلمين العرب وغير العرب لم يكونوا متوجسين أو مرتابين من الشيعة خلال القرن العشرين مثلا إلا في دول وحالات قليلة، ولا تزال معاداة التشيع ضعيفة جدا في دول عربية رئيسة كمصر والسودان والجزائر والمغرب وغيرها، فهذا المذهب هو من مذاهب العالم العربي منذ قرون، في أكثر من مجتمع ومنطقة، وقد اعترف جامع الأزهر بنفسه بالمذهب الشيعي الجعفري منذ عام 1958 مذهباً إسلامياً "يجوز التعبد بة" كما جاء في نص فتوى الشيخ "محمود شلتوت" شيخ الأزهر المتوفى عام 1964. ورغم أن الشيخ شلتوت كان متأثرا بابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، أبرز خصوم الشيعة في التراث، فإن شلتوت، كما تقول إحدى الموسوعات " كان من كبار المؤسسين لجماعة التقريب بين المذاهب والطوائف الإسلامية ولا سيما بين السنة والشيعة". (الموسوعة العربية المسيرة، 2001، ج3).

ثم جاء تسييس المذهب الشيعي وبناء الأحزاب، وتعبئة الأقليات وإثارة النفوس والمشاعر الطائفية، ونحجت الثورة الإيرانية عام 1979 بما جاهرت به دستورياً وعلنياً من سياسات وتحركات وبناء الأحزاب والجماعات، فتغيرت صورة الطائفة، وصارت تجمعاتها ومساجدها ومناسباتها عرضة للجماعات الإرهابية في دول كثيرة وبخاصة العراق بعد عام 2003 ودول الخليج وباكستان وغيرها.

غير أن معظم أهل السنّة في العالم العربي لا يخشون الشيعة بل يخشون، مع الكثير من الشيعة أنفسهم، ما ستفعله إيران وما سيوظفه التشيع السياسي والطائفي، بعد أي انتصار وكيف تستثمره إيران أو هذه القوى سياسياً ومذهبياً، وهل ستكون الكلمة العليا للتسامح والاعتدال، أو إغراق المجتمع كما في العراق ولبنان بمظاهر التشيع الإجبارية التي تثير مختلف ردود الأفعال؟

ولا ينفي هذا كله تنامي القلق في أوساط الكتلة السنية الخليجية والعربية، وتزايد المخاوف الطائفية في بعض هذه الدول، وعلى رأسها مخاوف الاضطهاد المذهبي والتهجير وتغيير التركيبة الطائفية في بعض المناطق، كما تقوم به جماعات أخرى كالأكراد مثلا، وفق اتهامات المنظمات الدولية. إن جواً خانقاً من المخاوف الطائفية والعرقية تسيطر اليوم، ويشعر بها الجميع، على العراق وسورية ولبنان والبلدان الخليجية، ولا بد لنا جميعاً أن نفعل شيئا للتخفيف من هذا الاحتقان.

يقول الكاتب اللبناني مصطفى فحص، وهو أحد أبناء العالم الشيعي الراحل "هاني فحص" في مقال له بالشرق الأوسط، منتقدا السياسات الإيرانية في المنطقة، ومضايقة الكتلة السنية على وجه الخصوص: "لم يخطر ببال أحد أن تتحول إيران في السنوات الأخيرة إلى لاعب صعب ومقلق، ففي لحظة استشعار بالغلبة أو القدرة على فرضها بهدف إخضاع الشعوب المجاورة لها، راهنت طهران في توسعها على منهجية طبقها وزراء السلاجقة، قائمة على أن "القوة تهزم الكثرة" إما بإخضاع هذه الكثرة أو بتشتيتها.

وتحاول إيران الآن تطبيقها في أكثر من مدينة عربية تاريخية، فهي تهيمن على بغداد وتحاول بشتى السبل وضع يدها على النجف، وتشارك في تحويل الموصل إلى حطام، وأهلها يواجهون عملية ترحيل جماعي تهدف إلى تغيير جذري في تركيبتها السكانية، كحمص التي حولها الأسد بدعم من إيران إلى ركام، ونفذ فيها عملية تطهير عرقي ومذهبي، وأما حلب أقدم مدن التاريخ، فتواجه مصيراً أسوأ من مصير حمص، حيث يواصل الطيران الروسي والمدفعية الإيرانية تسوية أبنيتها بالأرض، في عملية تهدف إلى طمس تاريخها وتهجير أهلها وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية". (2/ 11/ 2016).

ويعبر الكاتب السوري المعروف "غسان الإمام" في صحيفة الحياة عن مخاوفه من التلاعب بالتركيبة السكانية، ويقارن بين تركيا وإيران فيقول: "تركيا لا تشكل خطراً ديمغرافيا- سكانياً- يستوطن سورية، لكن إيران تبدو، من خلال زخم هجومها العسكري، مستعدة لتصدير كمية بشرية لا بأس بها من أصل 85 مليون شيعي إيراني وأفغاني، للإقامة في سورية والإمعان في تهجير وتفتيت غالبيتها العربية السنية". (1/ 11/ 2016).

وقد ينفي أنصار السياسة الإيرانية هذه التهم، وقد نفترض أنها ظالمة ومبالغ فيها، ولكن ماذا فعلت إيران إعلامياً ورسمياً لتبرئة نفسها وللخروج من دائرة الاتهام؟

إن مثل هذا التوطين حتى إن نجح مؤقتاً، فسيكون بؤرة توتر اجتماعية وطائفية دائمة قد تهدد حتى الوجود الشيعي الخليجي، ويولد المزيد من احتمالات القلاقل والصراعات، وسيجد المكون الشيعي نفسه موضوع شك وحقد، إذ لا يخفى أن "الكتلة المذهبية" الأساسية في العالم العربي قد تعفو ولا تغفو، وقد تمهل ولا تهمل، وبيوت الكثير من الأقليات... من زجاج.

أعود فأطالب جميع الشيعة في الكويت والمنطقة الخليجية وفي العراق ولبنان بأن تفعل شيئا من أجل إيقاف التوظيف السياسي للمذهب الشيعي أو أي مذهب آخر، والتلاعب بالمشاعر والمكونات الطائفية والمذهبية، وإذا اشتعلت هذه "المكونات" كان الثمن فادحاً، ونعود جميعاً فنذكر الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن مصالحها الحقيقية تكمن في كسب ثقة العالم العربي والتعاون معه في مجالات التجارة والزراعة والصناعة والاستثمار والسياحة، والكف عن الجري خلف مغامرات الحرس الثوري والقوى العسكرية المغامرة وذوي المشاعر الطائفية العمياء والأحقاد القومية المدمرة للجميع.

إننا نطالب إيران وكل عقلائها بأن ينظروا إلى الإمكانات السياسية والاقتصادية والثقافية الهائلة لدولة مثل إيران لا تزال صاحبة ثقل رئيسي في هذه المنطقة والعالم، ولعل أن يجد هذا النداء والتذكير آذانا صاغية.

back to top