ثورة المهمشين في أميركا
بعكس كل التوقعات فاز دونالد ترامب فوزاً ساحقاً، فلم يكن يتوقع أي من المراقبين والمتابعين، حتى في دائرة ترامب الضيقة، هذا الفوز، صحيح أن الأمنيات من مؤيديه بفوزه وتأكيد ثقته بالنصر لم تتراجع، ولكنها بدت أمنيات غير واقعية في ظل الصورة التي سادت كل وسائل إعلام العالم، وبعد كل قياسات الرأي التي توقعت دائما نصراً محسوماً لهيلاري كلينتون. لم تكن كلينتون هي الخاسر الوحيد في هذه الانتخابات، ولكن خسر معها قطاع كبير من الإعلام الأميركي الذي بدا منحازاً بقوة، ليس مع كلينتون ولكن ضد ترامب، أيضا تواجه مؤسسات قياس الرأي العام التي تبلغ ميزانيتها السنوية المليارات لتقيس وتتوقع سلوك المجتمع وتوجهاته، وفِي الحقيقة أيضاً توجه المجتمع عبر نتائجها، هذه المؤسسات تواجه لطمة قاسية بسبب نتائج الانتخابات، أجمعت كل التوقعات والقياسات تقريبا أن كلينتون هي الفائز لا محالة، ويظل الاختلاف حول مدى قوة وحسم هذا الفوز، الآن من المتوقع أن تواجه هذه المؤسسات مستقبلاً غير مؤكد، أقل النتائج أن تعيد هذه المؤسسات أو من يتبقى منها قواعد عمله ونظريات القياس المعتمدة، وأيضاً ولاءات هذه المؤسسات، ولن يكون بعيدا عن ذلك المؤسسات الإعلامية."نحن أخطأنا، نحن فوجئنا بمؤيدين لترامب لا نعرفهم يخرجون من أماكن لا نعرفها ويصوتون له حتى لو كانوا غير واثقين في تأهله للقيام بدور الرئيس"، هذا ما قاله أحد الخبراء السياسيين والداعمين لكلينتون على شبكة الـ"سي إن إن"، هؤلاء الناس المجهولون هم من أتوا بترامب إلى الرئاسة، ليس لأنهم يؤيدونه في الأساس، ولكن لأنهم يئسوا وكفروا بالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يدير البلاد، كفر هؤلاء بسياسيي واشنطن وذهبوا إلى شخص يتحدث مثلهم حتى لو كان أغنى منهم مليارات المرات، ولكنه عرف لغتهم وأسلوبهم في الحياة وأقنعهم أنهم إن أرادوا تحطيم "السيستم" القائم فهو رجلهم، لم يخدم ترامب في الجيش، ولم يخدم في وظيفة مدنية عكس كل من سبقوه، ولكنه تحدث بلغة ومخاوف ومطالب وأحلام هؤلاء الذين عاشوا طويلا على الهامش، هؤلاء الذين لم يعرفهم "السيستم" ولَم يتحدث بلسانهم ولَم يعرف مخاوفهم وأحلامهم، وظنوا أنهم خطر على استمرار هذا "السيستم"، فخرج هؤلاء ليهدموا ما رفضهم ورفضوه. معظم من صوّت لترامب أدلى بصوته له وهو يشك في امتلاكه الخبرة الكافية، بل إن معظمهم صوّت له وهو يشك أصلاً في إمكانية نجاحه، ولكنهم صوتوا في حركة احتجاجية، يمكن وصفها بثورة على "السيستم" القائم، وكانت المفاجأة أنهم نجحوا في ثورتهم، بالمناسبة كان ترامب لا يطلق على حملته تعبير "الحملة" بل كان يطلق عليها "الحركة"، وهذه الحركة كانت موجهة إلى كل المنظومة، بما فيها حزبه الذي وقف ضده طويلا، وقبلوا بعد ذلك على مضض ودون حماس كبير، بل إن دعوات كانت قد ظهرت قبل الانتخابات لإعادة تصحيح مسار الحزب الجمهوري وتطهيره بعد الضرر الذي تسبب فيه ترامب، وحددوا اليوم التالي للانتخابات لذلك التصحيح، لأنهم لم يتوقعوا له فوزاً.واستغرق ترامب (70 عاما) ما يزيد قليلا على 10 أشهر في التغلب على 16 مرشحا آخرين داخل حزبه، ليصبح أول مرشح لأحد الحزبين الرئيسين يخوض الانتخابات دون أن يمتلك أي خبرات حكومية أو أن يخدم في الجيش.
واجتذب ترامب عددا قياسيا من الأصوات في الانتخابات التمهيدية، لكنه أحدث في الوقت نفسه صدعا في الحزب الجمهوري، وتحاشاه أعضاء كبار في الحزب الجمهوري أو كان تأييدهم له فاترا، ومنهم الرئيسان السابقان جورج بوش وابنه، وعدد من قيادات الكونغرس.واستخدم ترامب "تويتر" سلاحا، فراح يطلق الإهانات، ويهزأ بمن أساؤوا إليه، وحتى أواخر أكتوبر الماضي، أحصت صحيفة "نيويورك تايمز" 282 شخصا ومناسبة وجه فيها ترامب إهانات لهم على "تويتر" منذ إعلان ترشحه.منذ نحو عام كنت أحضر أحد المؤتمرات الدولية، تحدث أحد الحضور وكان دبلوماسيا أميركيا سابقا، مشيراً إلى أن العالم يواجه عدداً من الكوارث الطبيعية التي تهدد البشرية، وذكر ارتفاع درجات الحرارة، والزلازل المتزايدة، والأوبئة الجديدة، وأضاف ساخراً: "أتمنى ألا يضاف إلى هذه الكوارث دونالد ترامب كرئيس لأميركا"، ضحك الحضور ولم يكن يتخيل أحدهم أن يأتي اليوم ليواجهوا الحقيقة، ثورة مهمشين ضد نظام إدارة حياة وسياسة واقتصاد قرروا تحديه، وعلى غير المتوقع، انتصروا.