قبل فترة قصيرة من الزمن كتبت عن فكرة الحكومة الصغيرة التي وضع فلسفتها روبرت نوزيك وعدد من رفاقه في منتصف القرن العشرين، قلت حينئذٍ إن تلك الفكرة غدت بالية.

ومع الجهود الرامية الى تقليص مردود الحكومة وتراكم الأدلة على أن تدخل الحكومات كان مفيداً جداً فإن الدولة التي تصورها نوزيك ومجموعته بدت وكأنها لا ترقى الى مستوى تحديات القرن الحادي والعشرين.

Ad

ولكن سوف يكون من الخطأ التخلص من هذه الفكرة والتخلي عنها بصورة تامة – كما يريد البعض من القراء من ذوي الميول اليسارية أن نفعل، صحيح أن هذه الفكرة مضت بعيداً جداً، ولكنها بالمثل علمتنا العديد من الدروس القيمة والمفيدة حول أعباء الدولة الظالمة، وتلك دروس يتعين علينا ألا ننساها مهما طال الزمن، ومن هذا المنطلق فإن التحدي الذي يواجه أنصار فكرة الحكومة الصغيرة يتمثل في ضرورة العثور على سبل من أجل تحديث عقيدتهم بحيث تعالج مشاكل اليوم فيما تحافظ على الأجزاء المفيدة وتعمل على تحسينها.

ويحاول العديد من مؤيدي هذه الفكرة القيام بهذا العمل على وجه التحديد، ويعمل مركز التفكير الجديد نسكانن على توجيه هذه الحركة نحو اتجاه جديد، وقد أظهرت مقالة جديدة كتبها نائب رئيس المركز لشؤون السياسة ويل ولكنسون نوع التفكير الذي سوف يسمح لفكرة الحكومة الصغيرة بالارتداد عن المسار الذي كانت عليه في القرن العشرين.

ويبدأ ولكنسون بنظرة متعمقة في المعلومات المتاحة وهو يواجه أنصارها بحقائق صارخة تقول إنه كلما كانت الدولة أكثر ثراء كانت حكومتها أكثر ميلاً الى الانفاق. وينطبق هذا بشكل محدد عندما ننظر الى الدول المختلفة وعندما نستعرض وضعها بمرور الوقت أيضاً، وتشمل قائمة الدول الأعلى انفاقاً في الوقت الراهن البعض من البلدان مثل فرنسا والدانمرك وفنلندا فيما تشمل قائمة الدول الصغيرة الحكومات السودان ونيجيريا وبنغلادش، كما يتضح ذلك من خلال انفاق الولايات المتحدة من خلال نسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد يرجع هذا الى كون الانفاق الحكومي يمثل رفاهية، وهو شيء تريده الدول الفقيرة ولكنها غير قادرة على تحمله، أو أن ذلك يعني أن الحكومة طفيلية، وربما يعني كذلك أن المزيد من الانفاق الحكومي يفضي الى جعل الدول أكثر ثراء.

ويقول ولكنسون إن انفاق الحكومة سواء كان كان من أجل الرفاهية أو لأغراض طفيلية فإن الدول الغنية قد لا تتمكن على الاطلاق من ابقائه منخفضاً، وما عدا قلة من الدول مثل سنغافورة وليخشتاين فإن كل دولة غنية اختارت وجود حكومة واسعة وكبيرة.

وأمام هذا الواقع يقول ولكنسون إن دعاة فكرة الحكومة الصغيرة يجب أن يكيفوا أهدافهم في اتجاهين، الأول هو أنه يتعين عليهم التفكير بقدر أكبر في كيفية جعل الحكومة أقل هدراً، فأنت تبدأ بالتفكير بصورة مختلفة حول خفض انفاق الهدر وتعزيز برامج الوفرة وجعل تقديم الخدمات الحكومية أكثر فاعلية عندما تدرك أن ذلك كله هو جزء من خطة رئيسية تهدف الى اغراق الحكومة، وتبدأ بقبول خفض الانفاق على شكل تركيبة انفاق فعالة وليس ضمن مستوى اجمالي له أو بحسب معدلاته في النمو.

ويعتبر هذا منطقياً ومعقولاً اذا كنت تعرف أن الحكومة سوف تنفق الكثير من المال وان هدفك هو منعها من اهدار المال وهنا يصبح الأسلوب الأفضل هو دفع الحكومة الى الانفاق بصورة تتسم بقدر أكبر من الحكمة والتعقل.

ويتمثل الأسلوب الثاني في التركيز على تحسين النمو الاقتصادي الذي كلما ازداد قوة كلما كان ضرره أقل في هذا الشأن، ولذلك فإن ولكنسون يقترح أن يحول دعاة فكرة الحكومة الصغيرة تركيزهم بعيداً عن الضرائب والرعاية واعادة التوزيع بحيث يتمحور حول التنظيم.

وهو يقول: «يتعين علينا أن نميز بقدر أكبر من الوضوح بين دولة الرعاية ودولة التنظيم ومن ثم التركيز على ازالة حواجز التنظيم التي تعترض طريق المشاركة الاقتصادية والابتكار والنمو».

وهو على حق، لأن هذا هو الأسلوب الذي يتعين على دعاة الحكومة الصغيرة والمحافظين بصورة عامة اتباعه، ومعروف أن التنظيم ينطوي على الكثير من التعقيد وتعدد الوجوه، وهو يتطلب جيشاً ضخماً من الأشخاص البارعين من أجل معرفة وتحديد الأنظمة الصالحة وتلك التي تعرقل النمو الاقتصادي. وفي الماضي لم يركز دعاة الحكومة الصغيرة على التنظيم على شكل أولوية بالنسبة اليهم، وربما كان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر معرضاً لعملية التنظيم بقدر يفوق ما كان عليه رونالد ريغان، لكن ذلك يجب أن يتغير الآن.

وتنطوي أفكار ولكنسون على دروس بالنسبة الى الاقتصاديين أيضاً، وقد جعل العديد منهم فكرة الحكومة الصغيرة قوة توجيه وارشاد في بحوثهم ولكن يتعين عليهم أيضاً اتباع مسار براغماتي، وبدلاً من وضع نظريات يتعين عليهم الخوض في تفاصيل عملية حول دولة التنظيم أو جمع الأدلة على كيفية الحد من تجاوزات الحكومة.

لم يتقدم ولكنسون ورفاقه في مركز نسكانن حتى الآن في حركة الحكومة الصغيرة ولكنني آمل في أن يكون لديهم درجة كبيرة من النفوذ والتأثير، ومعلوم أن لكل ايديولوجية أتباعها ومحدثيها ولكنني أظن أنه عندما يكسب دعاة التحديث فقط تصبح تلك الايديولوجية ذات صلة.

* Noah Smith