القصيدة/ اللوحة
تعتمد القصيدةُ الصورةَ، وهذا يقربها من الرسم. والقصيدة تعتمد الوزن، وهذا يقربها من الموسيقى. وقد تسهل على القارئ المقاربة الخيالية بين الصورة اللغوية في القصيدة، والصورة البصرية في اللوحة. وكذا المقاربة بين موسيقى اللغة وموسيقى الحنجرة والآلات. قد يأخذ الموسيقي القصيدة ويضع لها لحناً، مستعيناً بالوزن كضابط إيقاع فقط، لأن موسيقى القصيدة لا تقتصر على الوزن، كما أن موسيقى الحنجرة والآلات لا تقتصر على الإيقاع وحده، بل هو عنصر من عناصرها الثلاثة: الإيقاع، اللحن والهارموني. موسيقى القصيدة تتألف من إيقاعها (الوزن)، ومن ذلك الوجدان الشعري (يسميه الشاعر أليوت "الخيال السمعي")، الذي يفرز صوت الشاعر الخاص، عبر لغة يشدُّ الصوت فيها ويلين، يتسع ويضيق، ويرتفع وينخفض. تماماً كما يحدث للموسيقي مع تلون الصوت الذي يفرز اللحن. وزن القصيدة ليس هو موسيقاها إذن، بل عنصر مهم من عناصر موسيقاها. شاعران يستخدمان في قصيدة لهما وزناً واحداً، لكن موسيقى قصيدتيهما لن تكون واحدة بفعل ذلك. الذي يميز موسيقى القصيدتين هو الوجدان الشعري (مشاعر، وأفكار بكل ما فيهما من توافق وتعارض)، الذي يعتمل داخل الشاعر.هناك قصائد وُضعت من وحي عمل موسيقي، كما أن هناك عملاً موسيقياً مستوحى من قصيدة. ولعل ما فعله كل من الموسيقي ديبوسيه، والشاعر ملارميه، وكلاهما انطباعي فرنسي، في قصيدة "أصيلة الفون" The Afternoon of a Fau خير الأمثلة.
حكاية الصورة الشعرية والصورة البصرية في الرسم قد تبدو أيسر لدى القارئ. فالشعر يعتمد الصورة كعنصر جوهري، على ألا تُبتلى بالتجريد الذهني، بفعل النزعة اللغوية البلاغية، أو بفعل النزعة العقائدية، وهما الغالبتان اليوم. الصورة الشعرية تكفل، لدى الشاعر، توفير عناصر الصورة البصرية من خط ولون وكتلة وفراغ. فبفعل الخيال المرئي يمكن للغة الشعرية الطيعة أن تستجيب، فتتطابق مع المرئي والمحسوس. ولا تتطلب هذه الفاعلية الإبداعية موهبة رسم لدى الشاعر، ولا موهبة شعر لدى الرسام. لكنها تستدعي بالتأكيد وعياً عالياً بالفنين عند كليهما. هذا إذا ما توجه الشاعر للوحة بعينها، أو الرسام لقصيدة بعينها. على أن هناك من الشعراء من لا يجد في نفسه حرصاً على هذه العلاقة مع فن الرسم، يكتفي بما هو مرئي في الطبيعة الغنية من حوله.أنا أكتب القصيدة، وهي شاغلي الدائم. لكني أرسم اللوحة بفعل حاجة مفاجئة. ولم يحدث أن استوحيت قصيدة من لوحة بعينها، أو لوحة من قصيدة. لكن حدث أن انتابتني رغبة شديدة أن أكتب قصيدة من وحي لوحة مُتخيَّلة. وكأني أعددتها في خزانة مخيلتي لغرض فني. ولعل شدة الرغبة سولت لي أن أجعل قصيدتي مصدر إملاء للوحة على قماشة الكانفس. وهي تجربة تبدو لي هدفاً غريباً ومغرياً في آن. أعرضُ على القارئ واحدة من هذه القصائد، التي يكاد التشكيل اللغوي فيها أن يكون "سكيتشاً"، لتشكيل فني من الخط واللون والكتلة والفراغ. على أنها قصيدة في النهاية، ويجب أن تُقرأ كقصيدة مكتفية بذاتها:مغزلٌ في الفراغ/ لوحة مِغزلٌ في الفراغ يدورُ على نفسه،خيطُه في الهواءِ طليقٌ وسائبْ. أوجهٌ تحتَ ضوء المصوِّرِ ضاحكةٌ، أُقحمتْ في إطارْ، مُثبتٌ في جدارْ.ورداءٌ على الأرض أسودَ مُلقىً، يليقُ بأرملةٍ، ينزفُ الحبرَ. في الركن عند اليسارْسلّمٌ متداعٍ يحاول أن يبلغَ السطحَ. عند اليمينبعضُ ما ترك النخلُ من كرَبٍ، وبقايا جرارْغيرِ صالحةٍ، أطْفأتْ لونَها الشمس.