في 4 سبتمبر الماضي، نشرت في هذا المكان مقالاً بعنوان "هل يحسم الإعلام الانتخابات الأميركية؟"، وقد أنهيت هذا المقال بمقولة للفيلسوف الأميركي جوزيف ناي، صاحب أطروحة "القوى الناعمة"، قال فيها: "يربح المعركة من تربح قصته في الإعلام".

الآن باتت لدينا إجابة للسؤال الذي تضمنه عنوان المقال؛ وهي على هذا النحو: "لا يستطيع الإعلام وحده أن يحسم نتيجة الانتخابات الأميركية، رغم تأثيره الكبير والقوي".

Ad

وباتت لدينا أيضاً قدرة على انتقاد عبارة جوزيف ناي، والمحاججة بضرورة تصحيحها، لتصبح على النحو التالي: "يربح المعركة من تربح ذرائعه على الأرض، وليس من تربح قصته في الإعلام بالضرورة".

في المقال المشار إليه أوضحت أن دونالد ترامب، المرشح الرئاسي الجمهوري آنذاك، يتعرض لممارسات إعلامية غير منصفة، وأن وسائل إعلام عدة تشن ضده هجمات للنيل من صورته والإضرار بحظوظه في الفوز بالانتخابات.

وعلى عكس المعالجات الإعلامية المسيئة للمرشح الجمهوري والمؤيدة لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، جاءت نتائج الانتخابات.

فاز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية رغم أن وسائل الإعلام الرئيسة والنافذة كانت تعمل ضده بوضوح، ورغم أن استطلاعات الرأي الصادرة عن المراكز الحيوية والمهيمنة على صناعة الرأي العام في البلاد، أفادت بتراجع حظوظه في مواجهة منافسته المخضرمة كلينتون.

الآن باتت لدينا الفرصة لإعادة النظر في مساحة الدور الذي يمكن أن يؤديه الإعلام في الانتخابات السياسية، بعدما توافر الدليل على أن ذلك الدور لا يمكن أن يحسم معركة، وإن كان من الممكن أن يساعد أحد الأطراف على حساب طرف آخر.

أكثر من 200 وسيلة إعلام أميركية نافذة ومؤثرة أعلنت تأييدها لكلينتون ومعارضتها لترامب، ومعظم استطلاعات الرأي الرئيسة أفادت بهزيمته وفوزها. لم يتعرض مرشح رئاسي في الولايات المتحدة لمثل ما تعرض له ترامب من هجمات وشيطنة وتشويه عبر وسائل الإعلام المختلفة، ورغم هذا فقد فاز الرجل بالانتخابات.

لماذا فاز ترامب، رغم تواضع خبراته السياسية، وهجمات الإعلام عليه؟

أولاً: استثمار المخاوف

استثمر ترامب في مخاوف الأميركيين، خصوصاً هؤلاء الأقل دخلاً، والأكثر معاناة، والبيض، والأكبر سناً، والأكثر محافظة.

لعب ترامب على مخاوف الطبقات المحافظة، التي تضررت من التراجع الاقتصادي، والتي تزايدت مخاوفها من الإرهاب وتدفقات المهاجرين.

بحسب بعض استطلاعات الرأي التي أجريت على عينة من المصوتين؛ فقد صوت 78% ممن يعتقدون أن وضعهم المالي أسوأ الآن مما كان عليه سابقاً، و67% من البيض غير الحاصلين على شهادات، لترامب.

يعني هذا، في حال كان صحيحاً، أن الرجل استثمر في مخاوف البيض، الذين يشعرون أنهم في طريقهم لكي يكونوا أقلية بحلول عام 2050، بما يعنيه هذا من تزعزع مكانتهم في البلاد التي اعتقدوا أنهم مؤسسوها وصانعو مجدها.

لقد استثمر أيضاً في مخاوف الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى، وهي الطبقات التي تضررت أوضاعها الاقتصادية بسبب الأزمات المالية وتراجع الاقتصاد.

ثانياً: الإرهاب والإسلاموفوبيا

في أحد الخطابات التي ألقاها ترامب بين مؤيديه عشية الانتخابات، وقف يطعن في أداء هيلاري السياسي، قائلاً: "حين وصلت إلى منصب وزيرة الخارجية في 2009، كانت سورية دولة تحت السيطرة بقدر الإمكان، وليبيا مستقرة، ومصر كذلك، والعراق أقل عنفاً، لكن بعد أربع سنوات لها في المنصب، بات العراق أكثر عنفاً من أي وقت مضى، وليبيا مدمرة، وسورية تشهد حرباً أهلية، ومصر تعاني القلاقل والاضطرابات".

يلصق ترامب بهيلاري تهمة صناعة الإرهاب، أو على الأقل مساندته، أو توفير الشروط اللازمة لكي يزدهر، عبر سياساتها التي وصفها بـ"السيئة والمتخبطة".

استفاد ترامب من التهديدات الإرهابية التي انتعشت في ظل إدارة أوباما، وفي ظل وجود هيلاري في السلطة، وهي تهديدات تقترن بالمخاوف من الإسلاميين، وتلقى اهتماماً كبيراً بين أوساط الناخبين الأميركيين.

ربط ترامب بين هيلاري وانتعاش التهديدات الإرهابية، وبين وجوده في السلطة والقضاء على تلك التهديدات، وهذا الأمر يناسب كثيراً الجمهور الخائف، ويدفعه إلى التصويت للمرشح القوي صاحب الرؤية الواضحة والكلام المباشر بخصوص محاربة الإرهاب.

ثالثاً: التصويت العقابي

بعض الأميركيين لا شك صوت لترامب غضباً من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قادت إليها سياسات الإدارة الحالية.

لقد هيمن الديمقراطيون لثمانية أعوام على أهم مفاصل صناعة القرار في البلاد، وبالتالي فقد يرى الكثير من أفراد الجمهور المحبط والخائف وغير المتحقق أن الديمقراطيين، وإدارة أوباما تحديداً، يمكن أن يكونوا مسؤولين عن هذا التراجع، وبالتالي فقد يختار هؤلاء التصويت للمرشح المنافس كتصويت عقابي للسلطة الحالية.

يأخذ الكثيرون على هيلاري تورطها في مشكلة "البريد الإلكتروني"، وبعض التقارير عن تلقيها مساعدات مالية مشبوهة من خلال المؤسسة الخيرية التي تملكها مع زوجها، فضلاً عن الاتهامات الواسعة لها بالمسؤولية عن انتعاش التهديد "الداعشي" ومساندة بعض التيارات الأصولية؛ وهي أمور عززت الغضب من أدائها، وصبت في مصلحة منافسها.

رابعاً: القدرة على الوعد

عادة ما يخفق نظام الحكم القائم في تقديم الوعود الجذابة للناخبين، بالنظر إلى أنه كان ماثلاً في الحكم، وتجربته محل فحص ودرس.

يصعب جداً على رجل الدولة الإفراط في تقديم الوعود، خصوصاً في ما يخص العلاقات الخارجية والمواقف من القوى المنافسة والمتحالفة.

يظل رجل الدولة، أو المسؤول السياسي، أكثر محافظة من المرشح القادم من خارج السلطة، بالنظر إلى قدرة هذا الأخير على المغامرة بتقديم الوعود غير المنطقية استناداً إلى أنها لن تؤثر في المصالح الوطنية، مقارنة بالمسؤول السياسي الذي يجب أن يزن كلماته ووعوده، حتى لا يورط بلاده في مشكلات مع حلفائها أو خصومها.

خامساً: تقدم اليمين

يأتي فوز ترامب في الولايات المتحدة مواكباً لبروز النزعة اليمينية المحافظة في الكثير من دول العالم الغربي، ومع إضافة شعبوية ترامب، وصراحته الفجة، وقدرته على إثارة شغف الجمهور البسيط، يمكن فهم أسباب فوزه.

لتلك الأسباب فاز ترامب، ولتلك الأسباب أصبحنا ندرك أن للإعلام دوراً مسانداً في العمليات الانتخابية، وأنه لا يستطيع أن يمنح الفوز لمرشح، بعدما ظن البعض أنه قادر على حسم النتائج.

* كاتب مصري