النظام الديمقراطي، كما ذكرنا غير مرة، ليس مجرد آليات وإجراءات شكلية أو صناديق اقتراع الهدف منها الوصول إلى سلطة اتخاذ القرار، والقيام بعد ذلك، بتغيير قواعد اللعبة السياسية لإحكام السيطرة الأبدية، بل هو، قبل ذلك، حزمة قيم متكاملة تشمل التعددية، والتداول السلمي للسلطة التنفيذية، والحريات العامة والشخصية، وفصل السلطات، واحترام حقوق الأقليات وعدم فرض الوصاية على أحد، حيث تُحدد هذه القيم شكل الحكم وطريقة ممارسته، فصناديق الاقتراع وحدها من غير المستبعد أن ينتج عنها دكتاتورية مثل نظام هتلر النازي الذي تسبب في دمار العالم.

لقد تجاوز العالم المتقدم هذه المسألة منذ زمن بعيد، وأصبحت هناك قواعد عامة راسخة متوافق عليها وطنياً وتتضمنها الدساتير، بحيث تُحدّد شكل النظام المدني الديمقراطي، وكيفية إدارة الصراع السياسي في المجتمع وتداول السلطة سلمياً مثلما حصل مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من الخلافات السياسية الحادة التي رافقت الانتخابات الرئاسية. في الدول المدنية الديمقراطية يتم حظر أي برنامج سياسي يستند إلى شعارات دينية، والأسماء الدينية المسيحية التي تحملها بعض الأحزاب في أوروبا مثلاً فإنها مجرد أسماء، إذ لا تعني أنها أحزاب سياسية تسعى إلى إقامة دولة دينية، بل على العكس من ذلك، فهي أحزاب مدنية متمسكة بعلمانية الدولة وبالقيم الديمقراطية المتعارف عليها، وتمثل مصالح قوى اجتماعية معينة، ولكنها تسترشد، خصوصاً في برامجها الاجتماعية والثقافية، بالمبادئ العامة الأخلاقية التي جاءت في المسيحية.

Ad

أما في منطقتنا فما زال مفهوم النظام الديمقراطي بآلياته وقيمه معاً يواجه عداءً سافراً وتشويهاً متعمداً، سواء من أنظمة مستبدة تحتكر السُلطة والثروة، أو من تيارات الإسلام السياسي التي نشأت وترعرت في أحضان الأنظمة العربية، وذلك على الرغم من وجود دساتير مكتوبة وجيدة في بعض الدول، وعلى الرغم أيضاً من التجارب المريرة والدموية أحياناً في الصراع على السلطة في عدد من الدول العربية.

لقد كان من المفترض، خصوصاً بعد الهزات السياسية العنيفة التي أحدثتها منذ سنوات قليلة الانتفاضات والاحتجاجات والثورات العربية التي ما زلنا نعاني ارتداداتها وما زالت أسبابها قائمة، أن تقوم، كما ذكرنا من قبل، القوى السياسية وبالذات تيارات الإسلام السياسي التي اختطفت الثورات، ونكثت الوعود التي قطعتها على نفسها أمام الناس والقوى السياسية الأخرى، وساهمت في إجهاض عملية التغيير الديمقراطي السلمي وتحقيق مطالب الشعوب العربية في الحرية والديمقرطية والعيش الكريم، بعملية مراجعة نقدية شاملة وجادة لبرامجها وخطها السياسي ونظرتها القاصرة للنظام الديمقراطي الذي كانت وما زالت تعتبره مجرد إجراءات للوصول للسلطة واحتكارها للأبد، أي إقصاء الرأي المخالف وقمع الحريات. هل من الممكن أن تحصل هذه المراجعة النقدية الجادة الآن بحيث يترتب عليها اعتراف تيارات الإسلام السياسي، وبالذات جماعة الإخوان، بأخطائها الكارثية التي عانتها شعوب المنطقة، أم أن منطلقاتها الفكرية ومبادئها تتعارض مع قيم الديمقراطية، ولا تعترف إلا بالآليات والإجراءات التي قد تمكنها، في يوم من الأيام، من احتكار السلطة؟!