حكاية إيرنديرا البريئة

نشر في 14-11-2016
آخر تحديث 14-11-2016 | 00:00
 فوزية شويش السالم "حكاية ايرنديرا البريئة" رواية قصيرة للكاتب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الشهير، ملك الكتابات الواقعية السحرية، وخير من اشتغل عليها، كل ما كتبه اتسم بروحها وطابعها.

صدرت هذه الرواية عام 1972 في كتاب ضم معها سبع قصص قصيرة، وصورت كفيلم من بطولة الممثلة اليونانية الشهيرة "إيرينا باباس"، مثلت دور الجدة. لم أشاهد الفيلم، ولكني أتصور أنهم أحسنوا اختيارها للعب دور الجدة، لما تتميز به من ملامح حادة غامضة وروح أسطورية صالحة تماماً لشخصية الجدة، كما جاءت في الرواية التي صدرت بعد كتابته رواياته العظيمة: "الجنرال لا يجد من يكاتبه" (صدرت عام 1961)، و"مائة عام من العزلة" (صدرت عام 1967)، و"خريف البطريرك" (صدرت عام 1975)، أي أن هذه الرواية كتبها بعد صدور أعماله المهمة التي اشتهر وعُرف بها، عدا "خريف البطريرك" فقد كتبها بعد هذه الرواية.

الغريب أن كل أعماله تعالج بشكل أو بآخر الظلم والاستغلال والفساد، تتغير الشخصيات وحكاياتهم، لكن يبقى الهم الأساسي المحرك والدافع لكتابته هو شعوره بالظلم، وهو أرضية كل ما كتبه من قصص وروايات.

هذا الهم الأساسي موجود لدى أغلبية الكتاب، كل منهم هناك جوهر معين يُطرح في معظم أعمالهم، تدور كتاباتهم حول لب يكون المحرض والدافع والمحرك الأساسي لأعمالهم، وإن تغيرت مواضيع الروايات، لكن يبقى هناك قضية مصيرية تشغلهم وتحرك إبداعهم.

ولا يختلف محرض رواية حكاية ايرنديرا البريئة عن بقية أعماله، إلا بكون الظلم والاستغلال فيها آتيا من صوب امرأة وهي الجدة المستغلة لحفيدتها خير استغلال بدفعها للدعارة حتى تسدد ما عليها من ديون احتسبتها الجدة عليها بعد حريق تسببت فيه بنسيانها إطفاء الشمعة.

رسم ماركيز مشاهد استغلال الفتاة في منتهى الوحشية والجشع المتمادي للجدة الرهيبة القاسية التي تعيش على مص دماء الحفيدة، وفي الوقت ذاته تردد على سمعها أنها وريثتها الوحيدة، وكل هذا المال الآتي من استنزافها سيكون لها.

من أين تأتي سحرية هذه الرواية، وهي تحكي قصة استغلال جائزة الحدوث في كل زمان ومكان؟

سحريتها تأتي من طريقة المعالجة السردية لهذه الحكاية الواقعية، قدرة ماركيز بجعل الحدث الواقعي وتحويله إلى حدث فانتازي سحري، فالجدة تتنقل مع حفيدتها في الصحاري فوق محمل يحمله أربعة هنود، مع بقايا عظام الجد والأب، وسادة سرير ملكي، ملاك حرب، أريكة محترقة، وخرق لا تصلح لشيء، ومظلة ممزقة.

الموكب يخترق الأماكن الخاوية لتصبح فجأة مليئة بطوابير العمال وغيرهم المنتظرين لدورهم في مضاجعة الفتاة الصغيرة، والموسيقي تعزف، والمصور يصور والجدة تعد وتحصي البيزوات.

كل مكان قاحل يتحول إلى مهرجان ممتلئ بطوابير الزبائن والكل يدفع ما عنده، ومن لا يمتلك النقد يدفع بخاتم زواجه أو صور القديسين أو الممتلكات العائلية.

كل مشاهد الرواية تتحول بكتابته إلى واقعية سحرية مثل "رجل عسكري عثرت عليه في منزله عاري الصدر، ويطلق النار من بندقية حربية باتجاه سحابة داكنة، وحيدة تمر في السماء الحارقة، حيث كان يحاول ثقب السحابة لتسقط مطرا".

وهذا المشهد الرائع يمثل موت الجدة التي لا تموت حين حاول الشاب "أوليسيس" حبيب الفتاة قتلها بالزرنيخ، لتخليص فتاته منها: "ابتلعت كمية من الزرنيخ تكفي لإبادة جيل كامل من الفئران، ومع ذلك عزفت على البيانو، وغنت حتى منتصف الليل، ثم تمددت على فراشها سعيدة، ونامت نوما طبيعيا، الشيء الوحيد غير العادي، هو تنفسها، كان يشبه ضجيج تدحرج الحجارة".

الجدة لم تمت بالزرنيخ، ولا بالحريق، لكنها ماتت بعدة طعنات بالسكين، وعندما سال دمها كان لونه أخضر، الأمر الناتج ربما من سم الزرنيخ، لكن ماركيز أحسن توظيفه في صورة مشهد موتها السحرية، وهذه قدرة تحويل الواقعي إلى سحري.

وكعادته في بث معنى استمرارية الاستبداد في الظلم يجعل الجدة لا تموت بسهولة، بل تستمر في عيش الحياة بقدرات غير عادية، وهو ما صوره في "خريف البطريرك" الذي عاش مئات السنين، وفي الواقع كان يقصد كل من جاء بعده، كانوا مثله وامتدادا له، لذا عاش البطريرك لأكثر من ألف عام.

كما تفرح الشعوب بتحررها، فرحت الفتاة بموت الجدة وهربت بذهبها، "كانت تجري في عكس الريح، كانت أسرع من غزال".

back to top