الخروج البريطاني ودوامات الهلاك

نشر في 14-11-2016
آخر تحديث 14-11-2016 | 00:10
 بروجيكت سنديكيت من الواضح أن الأسواق المالية غير راضية عن الخروج البريطاني، وهي محقة في ذلك، ولكن لأن قوى مالية، لا منظمات المجتمع المدني الديمقراطي، هي التي تقاوم تنفيذ قرار المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فستصبح المناقشة بشأن الخروج البريطاني أكثر مرارة، وستكون التداعيات أكثر حِدة وقسوة.

كانت الآثار الاقتصادية الأولية المترتبة على الاستفتاء في يونيو ضئيلة، بل ربما كانت إيجابية بعض الشيء الآن مع تعديل أرقام النمو في المملكة المتحدة بعد الاستفتاء نحو الصعود، ولكن الجنيه الإسترليني يغرق، وأصبحت تكلفة تمويل ديون حكومة المملكة المتحدة في ارتفاع، وربما تكون عملية الانسحاب الفعلي من الاتحاد الأوروبي مدمرة للغاية.

بعد القرار بترك الاتحاد الأوروبي بات من مصلحة المملكة المتحدة أن تدير عملية الانسحاب بطريقة تقلل من تكاليف التعديل في الأمد القريب والتأثيرات السلبية البعيدة الأمد، وعلى نحو مماثل من مصلحة الاتحاد الأوروبي أن يحرص على تخفيف التأثير الاقتصادي، وأيضا الضرر الذي قد يلحق بسمعته نتيجة لخسارة دولة رئيسة في عضويته.

في الأحوال المثالية يفكر أطراف أي صراع بهدوء وعقلانية حول المصالح الطويلة الأمد، وتتصرف وفقا لذلك؛ ولكن من المؤسف أن هذا نادرا ما يحدث، وتماما كما يؤدي الطلاق بين زوجين في كثير من الأحيان إلى المرارة ومعارك حادة لا يستفيد منها غير المحامين، فيكاد يكون انزلاق طلاق المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي إلى مستويات قاسية من المرارة أمرا مؤكدا. ومع ارتفاع حِدة العداوة، تُصبِح التسوية الودية أقل احتمالا، وتنتهي الحال بالجميع إلى خسارة ما يزيد كثيرا على أي مكاسب قد تعود عليهم.

الواقع أن إجراءات طلاق المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تنطوي بالفعل على ثلاث دوامات مهلكة، فأولا هناك مخاطر سياسية وبنيوية تهدد الاتحاد الأوروبي إذا انسحبت دول أخرى، فعندما تفقد الكتلة دولة واحدة من أعضاءها، يبدو هذا وكأنه سوء حظ قد يُعزى إلى الخصائص المحلية للدولة المغادرة، ولكن إذا خسرت الكتلة عددا أكبر من الدول، يبدأ الأمر كأنه نتيجة لإهمال، أو سوء إدارة أو خلل في التصميم الأساسي. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي لديه حافز قوي لجعل خروج المملكة المتحدة مؤلما لها إلى أقصى حد ممكن، من أجل تثبيط رغبة دول مثل هولندا أو السويد أو فنلندا في الاقتداء بالمثال البريطاني.

تُظهِر استطلاعات الرأي أن دعم الاتحاد الأوروبي ارتفع في العديد من الدول الأعضاء منذ الاستفتاء في المملكة المتحدة، ولكن هذا ليس لأن الاتحاد الأوروبي أصبح فجأة يؤدي وظيفته على نحو أفضل، بل على العكس من ذلك، يشترك العديد من الأوروبيين في وجهة نظر مفادها أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ارتكبت خطأ فادحا عندما دعا إلى إجراء استفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي.

بعد الاستفتاء مباشرة توسلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الأوروبيين ألا يكونوا "بغيضين" بلا داع عندما يفكرون في شروط طلاق المملكة المتحدة، ولكن لأن المملكة المتحدة تعلم أن الاتحاد الأوروبي يخشى التفكك، فستقرأ حتما نزعة الانتقام في أي موقف يتخذه الاتحاد الأوروبي، وسيكون لزاما على المفاوضين من جانب المملكة المتحدة أن يفترضوا أن نظراءهم في الاتحاد الأوروبي يحاولون جعل الطريق إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي وعِرا قدر الإمكان على المستويين الاقتصادي والسياسي.

ومن ثَم سيرد المفاوضون البريطانيون لمنطق المفاوضين من جانب الاتحاد الأوروبي بشأن نظرية الدومينو من خلال محاولة جعل العملية مؤلمة قدر الإمكان لبقية الاتحاد الأوروبي، والواقع أن البريطانيين المناصرين لخروج المملكة المتحدة يؤمنون إيمانا راسخا بأن المملكة المتحدة ستكون أفضل حالا بمفردها، وأن الخروج البريطاني سيلحق بالأوروبيين ضررا أكبر كثيرا من الضرر الذي قد يلحقه بالبريطانيين، وهذا يعني أن معسكر الخروج لديه حافز قوي لتحقيق نبوءته.

تنطبق حلقة الهلاك الثانية على الاقتصاد السياسي المحلي في المملكة المتحدة، فلن تتمكن بريطانيا من التغلب ببساطة على الأوروبيين في لعبتهم من خلال إحياء صناعة السيارات لديها، أو عن طريق جعل صناعة النبيذ لديها منافسة للمنتجين الفرنسيين والإيطاليين، إذ يفرض مبدأ الميزة النسبية على المملكة المتحدة التأكيد على صناعة الخدمات، وبشكل خاص الخدمات المالية.

الواقع أن مدينة لندن تقود بالفعل الاقتصاد البريطاني، ويفترض أحد سيناريوهات ما بعد الخروج البريطاني تعاظم دور لندن كمركز مالي عالمي، ولكن لكي يحدث هذا، يتعين على الحكومة البريطانية أن تنشئ نظاما يقوم على الضرائب المنخفضة والقواعد التنظيمية المخففة، والمعاملة التفضيلية تجاه المهاجرين المهرة أو غير المهرة العاملين في قطاع الخدمات المالية وحوله. ولكن كل جزء من هذه الخطة يتعارض مع هدف الحكومة المتمثل في كبح جماح صناعة التمويل والحد من تدفقات المهاجرين.

الواقع أن تعزيز رأسمالية القطط السِمان هو على وجه التحديد عكس ما وعدت به رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عندما تولت المنصب خلفا لكاميرون، بل إن حملة الخروج تخضع لهيمنة أشخاص في إنكلترا وويلز يشعرون بأنهم محرومون من مكاسب العولمة، وصوتوا ضد الامتيازات والثروات التي تتمتع بها مدينة لندن الكبرى المتألقة عالميا. وبالتالي فإن واحدة من أكثر استراتيجيات التفاوض فعالية لدى المملكة المتحدة من شأنها أن تُفضي إلى انقسام بريطانيا ذاتها بشكل عميق، وخصوصا حزب المحافظين الحاكم.

يقودنا هذا إلى حلقة الهلاك الثالثة: وهي الهجرة التي كانت شديدة التأثير في نتائج الاستفتاء على الخروج البريطاني، والآن بات لزاما على حكومة تيريزا ماي أن تُظهِر للناخبين أنها قادرة على التعامل مع قضية المهاجرين والعمال الأجانب في المملكة المتحدة، ولكن ما دام الاقتصاد البريطاني يتمتع بديناميكيته ونشاطه، فسيظل يجتذب المهاجرين بصرف النظر عن قبولهم بشكل رسمي أو غير رسمي، ومن غير الممكن أن تضمن الحكومة تقليص الهجرة إلا عن طريق تدمير الاقتصاد، وهو ما ستُلقي باللائمة عنه على أوروبا الشريرة بطبيعة الحال.

من ناحية أخرى، إذا أصبحت المملكة المتحدة مركزا ماليا خارجيا منخفض التكلفة يهدر الوظائف، فقد تشكل تهديدا لجيرانها، وقد تستسلم أوروبا القارية لإغراء رفض الرأسمالية المالية برمتها، لمصلحة استراتيجية النمو القائمة على المشاريع الاستثمارية الضخمة التي تقودها الدولة.

في نهاية المطاف، ربما يشبه الخروج البريطاني تقطيع أوصال الجسم الواحد، مع انفصال الرأس المالي البريطاني عن الاقتصاد الحقيقي الأوروبي، وستبدو بريطانيا أقل جاذبية، وتنسحب أوروبا منغلقة على ذاتها، ويلقي كل جانب باللائمة على الآخر، وستكون هذه نتيجة سيئة للجميع، لكنها تلتصق أيضا بمنطق الطلاق المرير، وهو السبب الذي يحمل أغلب الأزواج على طلب المشورة.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وكبير زملاء مركز إبداع الحوكمة الدولية.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top