من الشائع وصف السياسيين القُساة أو المراوغين بالمكيافيللية، ولكن قلما رأينا في الولايات المتحدة تجسيداً لخصال مكيافيللي يحظى بقدر كبير من الإعجاب كما الرئيس المنتخب دونالد ترامب.

إذا تأملنا خصال ترامب المثيرة للجدل نعثر فيها على عدد كبير من الصفات التي اعتبرها مكيافيللي الساخر أساسية في شخصية القائد القوي، على سبيل المثال، قد يكون ترامب كاذباً، وهذه صفة تشكّل جزءاً ضرورياً من القيادة في رأي ذلك الفيلسوف الفلورنسي، كذلك لا يتردد ترامب في اللجوء إلى التنمر على غرار عدد من القادة الذين أثنى عليهم مكيافيللي، وتمتع الرئيس المنتخب أيضاً بشهية جنسية عارمة كما مكيافيللي نفسه.

Ad

نما اهتمامي بمكيافيللي بطريقة غير اعتيادية: كتبتُ نصاً مسرحياً لأوبرا عنه من تأليف محمد فيروز سيبدأ عرضها في شهر مارس في دار الأوبرا الوطني الهولندي في أمستردام.

اكتشفتُ نسخة مكيافيللي الساخرة من "الصواب السياسي" في زمنه، فاعتقد هذا الفيلسوف أن معظم كتيبات النصائح المخصصة للأمراء مجرد تفاهات، وخصوصاً في دعوتها للخير لا القوة، واعتبر مكيافيللي أن القيادة تقوم على ممارسة السلطة الحاسمة لا على الأخلاق الحميدة، فمهمة الأمير تأسيس دولة قوية وليست "خيّرة" بالضرورة.

كتب في رواية "الأمير": "يدرك الجميع كم من الجيد أن يفي الأمير بوعوده وأن يعيش بنزاهة بدل الخداع، لكن تجارب زمننا تُظهر أن الأمراء الذين حققوا إنجازات عظيمة لم يأبهوا كثيراً بالتعامل بصدق مع الناس واستخدموا الذكاء ليخدعوا عقولهم".

من مسؤوليات القائد رؤية العالم على حقيقته لا كما تمليه عليه الأخلاق: "لا شك أن الإنسان الذي يأمل دوماً فعل الخير سيخفق بين كل هذا العدد الكبير من الفاسدين، لذلك على الأمير الذي يرغب في الاحتفاظ بالسلطة أن يتعلم التصرف بفساد، مطبقاً هذا الفن أو ممتنعاً عنه وفق الحاجة".

ربما كانت رغبة ترامب في الفوز بتأييد الناس ستقلق مكيافيللي، إذ يود القادة كافة أن يحظوا بحب الناس وخوفهم في آن واحد، لكن مكيافيللي حذر مما هو سائد بأن "الأكثر أمانا هو التركيز على الخوف" إذا اضطر القائد إلى الاختيار بين الصفتَين.

بنى مكيافيللي نموذجه عن القائد الخير على سيزار بورجيا، الذي تصوِّره معظم الروايات التاريخية كقائد عسكري جشع متعطش للدم، لكن مكيافيللي اعتقد أن هذه الصفات سمحت لبورجيا بالحكم بحسم، فأوضح ذلك بقوله: "اعتُبر سيزار بورجيا قاسياً، إلا أن قساوته أنهت الاضطرابات في رومانيا، موحدةً إياها بسلام وإخلاص".

وحمل مكيافيللي نوعاً من الضغينة سياسياً، فكان مستشاراً بارزاً للحكومة الجمهورية التي حكمت فلورنسا عقب الإطاحة بسلالة ميديشي عام 1494، وعززت هذه التجربة لفترة وجيزة نفوذ الراهب المتشدد سافونارولا، ولكن عندما استعاد آل ميديشي السلطة عام 1512، حاول مكيافيللي، الذي عانى ضائقة مالية، يائساً استعادة ثقتهم، حتى إنه ألّف "الأمير" بهدف نيل رضا آل ميديشي، إلا أنهم رفضوها، ولم يُنشر عمله المبدع هذا حتى عام 1532 بعد مرور خمس سنوات على وفاته.

نعيش في عالم تكتسب فيه شخصيات مكيافيللية (قادة قساة يملكون نظرة ساخرة إلى الطبيعة البشرية) نفوذاً أكبر على ما يبدو، فنرى على المسرح العالمي اليوم رجالاً مستبدين أقوياء، مثل فلاديمير بوتين في روسيا، وشي جينبينغ في الصين، ورجب طيب إردوغان في تركيا.

قد يميل ترامب إلى الانضمام إليهم على المسرح، ولكن عندما يؤدي قسم تسلمه منصبه في 20 يناير، سيمثل ديمقراطية يبقى دستورها وشرعة حقوقها أمل العالم.