ظاهرة سيطرة العسكر في الوطن العربي!
بقدر ما تعد ستينيات القرن العشرين فترة التنوير العربي وشيوع الثقافة والوعي السياسي بقدر ما شهدت سيطرة العسكر على السلطة بانقلابات عسكرية، فسبقتها انقلابات عام 1949م وأعقبتها انقلابات كذلك في السبعينيات والثمانينيات في المشرق والمغرب العربيين، وفي الدول العربية في القرن الإفريقي ووادي النيل (مصر والسودان).وبدون الدخول في تفاصيل تلك الانقلابات فقد كان لبعضها إيجابيات مثل تجربة جمال عبدالناصر، ولكن ما نريد التركيز عليه هنا هو كيف نقيم تجربة حكم العسكر لدول عربية رئيسة، فقد شهدت هذه الدول مثل مصر والسودان والجزائر وليبيا وسورية والعراق واليمن انقلابات عسكرية، وحكَم العسكر هذه الدول عقودا، كما تعددت الانقلابات في بعض تلك الدول، والسؤال: هل هناك إيجابيات لحكم العسكر في هذه الدول إذا كنا متفقين على السلبيات؟أولاً: للدول المتخلفة والنامية، ومنها عدد كبير من الدول العربية، طبيعة اجتماعية وسياسية وثقافية، يعتقد الكثيرون أنه لا يمكن قيادتها والسيطرة عليها إلا عن طريق القوة العسكرية، فالجيوش فيها هي العمود الفقري للقوة.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن هذه الدول غير مؤهلة للتحول الديمقراطي، وأنها عرضة للصراع والحروب الأهلية والتدخل الخارجي، وإذا توافرت قيادة عسكرية وطنية لقيادتها، فهي تعبر عن طبيعة المرحلة، ولا مجال إلى حرق المراحل للانتقال إلى الديمقراطية، وأسس هذا النهج غير متوافرة، وعلى العكس من ذلك يرى آخرون أن هناك أغلبية صامته بحكم أوضاعها الاجتماعية ومستوى وعيها السياسي ترفض ذلك. وهناك مجتمعات كان من الضرورة أن تتحرك قيادتها العسكرية تنفيذاً لموقف في ظل صراع سياسي وإثني خطير، وذلك بحكم الإمكانات التي تملكها أو أداة الحسم لديها، وكتجربة للناس في البداية، ثم يكتشفون عدم قدرتها على إدارة شؤونهم. ويكتشف الكثيرون كذلك أن بعض العسكريين قد حققوا إنجازات لشعوبهم، فنظام عبدالناصر مثال على ذلك في فترة حكمه لمصر مدة ثمانية عشر عاماً خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فقد جعل التعليم مجانياً، ووزع الأراضي على الفلاحين، وأمم قناة السويس، وبنى السد العالي، ووضع قضية فلسطين على رأس أولويات القضايا العربية، وبنى صناعة حربية جيدة في فترة زمنية وجيزة، ولكن تلك التجربة لم تكن تخلو من السلبيات، مثل سيطرة العسكر على مرافق الدولة، وعدم تطبيق الديمقراطية والسماح بالتعددية... إلخ. وفيما يلي تحديداً بعض القضايا الرئيسة في حكم العسكر لعدد من الدول العربية، وقد نختلف أو نتفق عليها: تحدث الكثيرون عن تجربتي محمد علي وعبدالناصر في مصر، فهل كان في الإمكان تحقيق ما تحقق على يد العسكر؟ وهل كان يمكن للبديل من الأحزاب النيابية والزعامات العشائرية التدخل لتحقيق إنجازات أساسية؟ لعل أبرز ظاهرة في تاريخ العرب المعاصر أن أغلب الاستقلالات العربية قد حدثت على يد العسكر ولكنها بطبيعة الحال ليست استقلالات كاملة، ونحن نقصد هنا الدول العربية الكبيرة بطبيعة الحال لأن مفهوم الاستقلال ليس سياسياً فحسب بل هو استقلال سياسي واقتصادي واستقلال القرار دون تدخل خارجي. ونحاول فيما يلي طرح ملامح حكم العسكر لهذه الدول في تلك المرحلة، مع أننا نعرف مسبقاً اختلاف البعض معنا فيما نذهب إليه اختلافا فكريا وأيديولوجيا وهذا من حقهم، ونرحب بالحوار حول الموضوع ما دمنا في مرحلة جديدة نحاول دخولها وهي مرحلة التعددية والديمقراطية: - إن تدخل العسكر في السياسة جاء نتيجة لتوجهات الأحزاب السياسية في تلك الدول، والتي لا تفهم تطبيق الديمقراطية بل الانفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين. - إن بعض الاستقلالات العربية كان لها بعد سياسي واقتصادي مثل: تأميم قناة السويس وبناء السد العالي في مصر وتأميم النفط في عدد من الدول العربية. - إن الجيش في دولنا العربية الرئيسة هو القوة القادرة على حسم الأمور عندما تتفاقم الصراعات والنزاعات في المجتمع، وقبضة الجيش الحديدية تحافظ على مقومات الدولة من التفكك والانهيار، وهذه مرحلة يجب ألا تطول. ويلاحظ من التقييم التاريخي لتجارب سيطرة العسكر وجود سلطة مركزية قوية قادرة إلى حد ما على حفظ وحدة الدولة وحماية سيادتها وحدودها، ووحدة البلاد السياسية على الرغم من الخلافات والنزاعات الإثنية في مجتمعات دأبت على ذلك النزاع الذي هو سمة من تاريخها وتراثها، ولكن استمرار العسكر في السلطة طويلاً أدى إلى الفساد الإداري والمالي والسياسي ومنع التطور الديمقراطي في تلك المجتمعات. إن العصر الذي ندخله هو عصر التعددية والديمقراطية، وإن دخولنا فيه يعني عدم هيمنة العسكر على السلطة فترة طويلة، وفي الوقت نفسه عدم انفراد حزب أو أيديولوجية في السلطة مهما كانت قوته ونفوذه، ولعل احترام رأي الأقليات وعدم تهميشها سياسياً واقتصاديا من سمات المرحلة الجديدة المتقدمة. إن الوطن العربي يكاد يدخل مرحلة جديدة هي بحاجة إلى تجديد فكر الأمة وإلى ثقافة جديدة، وذلك يعني هيمنة لأيديولوجية واحدة لا زعيم أوحد، ولا حزب واحد في المستقبل في العالم الثالث.