في عصرنا الراهن انكبّت الدراسات على محاولة فهم الطبيعة المتغيّرة للحروب الحاليّة، نذكر منها كتاب «الحروب القديمة والجديدة» (1999) New and Old Wars للباحثة السياسيّة الأميركيّة مـاري كـالدور، وكتاب «الحروب الجديدة» Guerres nouvelles (2003) للباحث السياسي الألماني هيرفرايد مونكلر، وكتاب الباحث الأميركيّ المختصّ في العلاقات الدوليّة يشوع غولدشـتاين، «كسب الحرب على الحرب» (2011)إلخ. وهذه الكتب كلّها تُجمِع على أنّ أُطر الحرب الكلاسيكيّة، التي كان قد حدّدها المؤرّخ البروسي كارل فون كلاوزفيتز في كتابه «في الحرب» On war الصادر عام 1832، انتهت إلى غير رجعة.

وهكـذا، لم يأخذ موضوع السلام الأهمّية نفسها التي احتلّها موضوع الحروب في العالم. من هنا جاء كتاب «عالم أوحد: تطــوّر التعاون الـدوليّ» Un seul monde. L’évolution de la coopération internationale لمؤلّفه غيـِّــوم ديفــان الصادر عن منشورات المـركز الوطني الفرنسي للبحث العلميّ (CNRS)، ليُعيد النظر في الرأي السائد بأنّ التعاون الدولي ما هو إلّا إيمان ساذج بعالمٍ مثاليّ. في كتابه، الصادر حديثاً بترجمته العربيّة عن «مؤسّسة الفكر العربي»، وبترجمة نصير مروّة، يحاول ديفان تبيان أنّ التعاون المذكور يؤدي دوراً أساسياً في سيرورة السلام وفي مسار إحلاله، حتّى ولو جاء ذلك بطيئاً وغـير منتظم في هـذا العالم الذي يفتقر إلى الكمال.

Ad

تفاؤل غير ساذج

جاء الكتاب ليذكّرنا بأنّ الكلام على الحرب يفترض الكلام في السلم، تماماً ككلامنا في الليل والنهار، والموت والحياة، واليأس والأمل... وغيرها من سنن الحياة وتناقضاتها. غير أنّ السـلام بالنسبة إلى غيـِّــوم ديفــان لا يشــكّل مجرّد لحظة. وما أغفله كثرٌ، خصوصاً في ميدان العلاقات الدّولية، تحديداً في زمننا الراهن المتميّز بكونه زمن «جبروت التقنيّة»، هو بنية السلام هذا وأطره وسيروراته. من هنا تركيزه على هذا البُعد المنسيّ تقريباً، أي على «جملة ســيرورات التعاون ومســـاراته التي تحـوِّل العلاقـات الدوليّة، في محاولة تأطير علاقـات القوّة ومـوازين القوى، وتحكيم العقل والتعقّل فيها، وتجاوزها. إنّها حركة الديناميّة التعاونيّة بين الدّول وبين المجتمعات التي غدت المنسيّ الأكبر الذي أغفله تاريخ العلاقات الدوليّة».

أعاد المؤلّف الاعتبار إلى التعاون الدوليّ على اعتبار أنّه مفتاح قراءة العلاقات الدوليّة المُعاصرة، متجاوزاً الاعتقاد السائد بأنّ «التعاون الدوليّ» تعبيرٌ على قـدرٍ من الضبابية والغموض كونه نُظر إليه بوصفه «ضرباً من الطوعيّة المُنظَّمة»، وفقاً لتعبير سكوت باريت، متيقّناً بأنّ «الاعتـراف بالآخـر، والعمل المنسَّق، والسعي إلى أهـدافٍ مشـتركة، هي الأشكال المختلفة والصُّور المتنوّعة للنشاطات التعاونيّة»؛ وأنّ هذه «لا تَسـتبعِد النّزاع مطلقاً، ولكنّها تسعى إلى احتوائه ضمن إطارٍ مقبول، أي داخل إطار منظّمة دولية، ومن ضمن قواعـد قانونية، وتفاوض». وتطلَّب منه ذلك رصد فكرة «التعاون» ودخولها مفرداتنا ومصطلحاتنا منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشـر، ليستخلص جوهرها. فتضمَّن «التعاون» بالنسبة إليه وضعيّة الترابط أو الارتهان المُتبادَل بين الفاعلين، بحيث لا يسـتطيع أيّ طرف منهم أن يبلغ أهـدافه، من دون أخـذ الآخـرين بعين الاعتبار، وذلك في إطارٍ من «التنسـيق والتعاون» اللذَيْن يفترضان «إيجـاد حلٍّ مؤاتٍ ومُجـزٍ للجميع»، تكون مسـألة توزيع المغانم فيه قائمة على النحـو الأفضل بحسب المصالح المُشـتركة. وإذا كان ذلك ليس سـهل التحديد على الصعيد الدوليّ، إلّا أنّه لا يعني أنّه يشكّل «سديماً ضبابياً يعصى على التناول ويصعب على الإدراك».

زعزعة الأفكار السائدة

بموضوعيّة علميّة، يُزعزِع غيـِّــوم ديفــان الأفكار السائدة عن التعاون الدّولي، ليخلصَ إلى أنّه «كلّمـا كانت نشاطات التعاون الدوليّ كثيرة، ومتنوّعة، وكثيفة، تقلَّصت فُرص النزاعات المسـلَّحة. فالتعاون يخـدم الأمن؛ بمـا في ذلك الأمن التقليدي بين الدّول، لأنّه يُعطيه بُعـداً جماعيّاً».

هـذه هي الحـال مثلاً عنـدمـا أقرّ مجلس الأمن مراراً، منـذ سـنوات 1990، أنّ النزاعات الداخلية للدول يمكن أن تشـكِّل تهـديداً للسلام والأمن الدوليَّين (البوسنة، الصومال، روانـدا، ألبـانيـا، هايتي، جمهورية أفـريقيـا الوسطى، شاطئ العاج، السـودان، ليبيـا)؛ وفي هذه الحالة تُصبح التنمية الاقتصادية، والاسـتقرار السياسي، وحمـاية الأهالي المدنيّين، والإدارة الرشيدة أو التسيير الصالح للموارد الطبيعية، ومهمّات أخرى كثيرة سواها، مسـائل تنتمي إلى الأمن القومي كما تنتمي إلى الأمن الـدوليّ في الوقت عينه. وهكـذا، فإنّ أبعـاد الأمن، الداخلية والخارجية، تُصبح متضامنة في ما بينها. وقـد التزم مجلس الأمن السَّير في هـذا السبيل، وبات من الصعب عليه أن يعـود القهقرى إلى الوراء.

والكتاب غنيّ بغير ذلك من أمثلة وحِجج وبراهين تؤكّد أنّ التغيير على الصعيد الدّولي، واستناداً إلى تجارب التاريخ، لا بدّ من أن يُطاول على نحو متـزامنٍ، وإن بنسبٍ متغيّرة، الفعاليّات والفاعلين في النظام الدوليّ، وعلاقاتهم، ونمـط «التسـوية» الذي يعتمدونه، والذي عادةً ما يكون نمط «التسوية» الغالِب الذي فَرَضته الظروف الموضوعيّة.