الكتابة في مواجهة الفكر الهدام (2-2)

نشر في 16-11-2016
آخر تحديث 16-11-2016 | 00:00
 طالب الرفاعي إن أقطار وطننا العربي خاصة، وبقاع كثيرة في العالم، تعيش واحدة من أكثر الفترات التاريخية التي تعجّ بممارسة نفي الآخر والعنف والوحشية والاقتتال والموت والدمار.

ولأننا نعيش عصر شبكة الإنترنت ومحركات البحث، ومحطات الأخبار الفضائية، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن أخبار العنف ومنظر الدم والقتل صارا مألوفين، حتى غديا لا يثيران انتباها، ولا يحركان مشاعر، والقول نفسه ينطبق على مشاهد الفحش التي تملأ مواقع شبكات الإنترنت.

صار المتلقي يمر على الفكر الهدام، عنفاً وفحشاً، كما يمر على خبر نتيجة مباريات في الدوري الإسباني أو الإنكليزي، أو أي خبر طبي أو علمي. وصارت اللحظة تمر حاملة صورها معها، لتخلّف في وعينا رواسبها السامة والقاتلة.

الإنسان يعيش عصر الصورة، ولا شيء يحاصره ويؤثر في وعيه ولاوعيه بمقدار ما تفعل الصورة. وحدها بجمالها وبشاعتها تركض أمامنا على شاشات الكمبيوتر وإعلانات الشوارع والمجلات الملونة والتلفزيون والتلفون النقال، في تسارع محموم، كل صورة تدفع الصورة التي أمامها، لتأخذ حيزها العابر، تمهيداً لصورة تالية تأتي خلفها ودواليك.

إن أي عنف بشري مجنون إنما يستند إلى أفكار هدامة، وليس أكثر هدماً من قتل الإنسان. فالآية الكريمة في سورة المائدة (32) تقول؛ "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، لذا فقتل إنسان إنما هو بمنزلة قتل لجميع الناس، وإحياء روح هو في المقابل إحياء للناس جميعا.

المجتمعات البشرية تحتكم إلى شرائع وقوانين، وبقدر ما تؤمن هذه القوانين بحرية الإنسان، بعيدا عن الدين والجنس واللون والفقر والغنى، وتؤمن أيضا بالديمقراطية طريقة لتداول السلطة، وأخيراً تطبق بعدالة مبدأ تكافؤ الفرص. كلُ هذا مجتمعاً يشكل الركائز التي تؤسس لمجتمع متماسك وعصري ومعافى، وتقف في وجه الفكر الهدام بأنواعه المختلفة.

للأسف، تعيش أقطار كثيرة في وطننا العربي واحدة من أكثر فترات ظلامها وظلمتها؛ إنسانياً وسياسياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً، وهذا مُجتمِعاً يشكل البيئة الأخصب لولادة وتكاثر الفكر الهدام. الفكر المتشدد، فكر الغلو، فكر نفي الآخر، حتى لو وصل هذا النفي إلى حد القتل والتمثيل، مثلما يساعد على نشر أفكار الفحش والرذيلة والانحطاط، وأفكار هدامة كثيرة غيرها.

يصعبُ على كلمة أن تقف في وجه طلقة، لكن الفرق الجوهري بينهما، أن الطلقة تنتهي لحظة انطلاقها، والكلمة/الفكرة تولد لحظة تنبعث. الطلقة تقتُل والكلمة تُحيي. الطلقة عمرها قصير، والكلمة مداها طويل ومعمّر. الطلقة ضد مبدأ الحياة، والكلمة هي التي تعطي لموجودات الحياة معنى.

مستقبل مخيف بات يحدّق بمنطقتنا العربية. وأكثر الدراسات المستقبلية تفاؤلاً لا ترى استقراراً قريباً لهذه المنطقة. لذا، ولكي نتمكن من الوقوف في وجه الفكر الهدّام، كلٌ من موقعه، علينا أن نميّز بين ثلاثة أنواع من الأفكار الهدامة:

- أفكار التزمت الديني والغلو والتشدد، والإيمان بالعنف طريقاً للحياة.

- أفكار العنصرية ونفي الآخر بمختلف صورها.

- أفكار الانحلال الخلقي والدعوة للرذيلة.

كل الأفكار أعلاه تحمل أفكاراً هدامة. فمن يأخذ أبناءنا إلى الموت، بحجة الدفاع عن الدين الحق وإقامة شرع الله كما يراه هو، لا يفرق عن العنصري، وعمن يأخذهم إلى الرذيلة والانحلال والهلاك.

لذا يجب الوقوف في وجه الأفكار أعلاه ومحاربتها بالفكر والإقناع، ومواجهة الرأي بالرأي الآخر. ومؤكد أن المؤسسات الرسمية والأهلية ومؤسسات المجتمع المدني كلها مطالبة بأن يكون لها موقف إنساني علمي وعصري وموضوعي حيال ذلك، حيال الغلو والتشدد والعنف، وحيال العنصرية، والانحلال والرذيلة. ومؤكد أيضاً أن لكل منا دوره المهم في الوقوف في وجه الفكر الهدام.

المفكرون والكُتاب المبدعون لهم دور فيصل في الوقوف بوجه الفكر الهدام، وهذا الدور يتوزع بين أمرين:

- الأول: طرح أفكار جديدة إنسانية وعصرية وعلمية تؤمن بالخير والعدالة والحرية والسلام وحقوق الإنسان، وتنادي بنبذ العنصرية والعنف والاقتتال.

- الثاني: التبشير بمستقبل أفضل، ما يعطي الإنسان فسحة من الأمل تكون عوناً له على اجتياز محنة الواقع المؤلم.

الوقوف بوجه الفكر الهدام مسؤولية الجميع، ولا شيء يقف بوجه أي فكر هدام بقدر التعليم ونشر الوعي. فالمجتمعات الأمية المتخلفة لن تقف في وجه الفكر الهدام، بل ستنقاد إليه، لأنها لا تعيش نبض اللحظة الإنسانية الحاضرة، ولا تملك ما ترد وتحاجج به.

التاريخ البشري يقول إن البناءَ صعبٌ ويستغرق وقتاً يمتد على قدرِ سعة البناء. وعلى العكس من ذلك، فإن الهدمَ سهلٌ وسريع. لكن شأن الحياة أنها متجددة تشرق كل يوم، ولا شيء كما الكلمة المبدعة الجديدة الخيّرة يتفق مع التجدد والتغيير، وتكون مخرزاً في وجه الفكر الأسود الهدام.

• محاضرة غير منشورة، قُدمت في معرض الشارقة الدولي للكتاب.

back to top