فيه كثير من ملامح الشخص «الكلاسيكي» وسماته: النبيل، القادم من حلم، الذي يبدأ قراءة جريدته المفضلة بصفحة الوفيات، الطفل الكبير، هادئ الطباع، قليل الكلام، المجامل، الخجول، عاشق التفاصيل، المؤمن بالقسمة والنصيب، والكاره للعجلة في اتخاذ القرارات. لكن المتابع لمسيرة «النجم» محمود عبد العزيز (4 يونيو 1946 - 12 نوفمبر 2016) يكتشف جانباً آخر في شخصيته، ألا وهو ميله الواضح إلى المغامرة، فالشاب الذي حصل على درجة البكالوريوس من كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، والماجستير في تربية النحل، لم يركن إلى الوظيفة الحكومية، ولم يؤمن بالمثل الشائع «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه»... ولما أصبح وجهاً جديداً اكتشفه المخرج الكبير نور الدمرداش، وتبناه المنتج الشهير رمسيس نجيب، لم يتردد في التخلي عن وسامته، وهجر الأفلام التي من نوعية: «حتى آخر العمر»، «مع حبي وأشواقي» و{البنت الحلوة الكدابة» ليشارك الفنان القدير محمود مرسي والكاتب الكبير وحيد حامد في فيلم «طائر الليل الحزين» إخراج يحيى العلمي، ويقترب من صلاح جاهين وعلي بدرخان في فيلم «شفيقة ومتولي»، الذي جمعه وسعاد حسني. وعندما فرضت عليه الظروف المشاركة في أفلام متوسطة القيمة مثل: «عيب يا لولو»، «عشاق تحت العشرين» و{البنات عايزة أيه» استعاد صوابه سريعاً، وبدأ مرحلة «العار»، و{درب الهوى»، و{السادة المرتشون» و{العذراء والشعر الأبيض» وتوالت أفلامه الناجحة، وأبرزها: «تزوير في أوراق رسمية»، «إعدام ميت» و{الشقة من حق الزوجة». لكني أزعم أن اللقاء الذي جمع بينه وبين المخرج داود عبد السيد في فيلم «الصعاليك» كان له تأثيره الكبير على رؤيته، وطريقة تفكيره، وربما تغيير أسلوب حياته. في أعقابه مباشرة تعاون وبشير الديك في «الطوفان»، وعاطف الطيب في «البريء»، وعلي بدرخان في «الجوع»... ثم عاد للعمل مع عاطف الطيب في «أبناء وقتلة» وبدأ تجربته الفارقة مع رأفت الميهي في «السادة الرجال» التي استكملها بثنائية «سمك لبن تمر هندي» و{سيداتي آنساتي».بالطبع غازل عبد العزيز الجمهور بأفلام مثل: «وكالة البلح»، «عفواً أيها القانون»، «الكيف»، «الحدق يفهم»، «جري الوحوش» و{أبو كرتونة». لكنّ أحداً لا يجرؤ على اتهام أي من هذه الأفلام بالسطحية أو الابتذال والسوقية، ومن ثم لم يكن غريباً على نجمنا أن يبدأ مرحلة التسعينيات من القرن الماضي بالفيلم الأيقونة «الكيت كات» وفي توقيت متزامن مع مشاركته في فيلمي «دنيا عبد الجبار» و{فخ الجواسيس» يواصل «التجريب»، الذي بدأه مع رأفت الميهي، ويدخل المغامرة تلو الأخرى، كما فعل في فيلم «ثلاثة على الطريق» للمخرج محمد كامل القليوبي، إذ لم يكن مجرد فيلم عن سائق لوري يتنقل بعربته ما بين الأقصر والمحلة، بل كان رصداً لأحوال مصر ومتغيراتها. وفي «خلطبيطة» سار وراء النهج «الكافكاوي»، حيث الموظف البسيط الذي يسير بجانب الحائط لكن جهة أمنية مجهولة تتعقبه، وتلقي القبض عليه، وبعد أن توجه له اتهامات عدة يهرب، ويظل مُطارداً، ثم يُحاكم بشكل عبثي، وهي تجربة سينمائية صعبة تثير هلع «النجم التقليدي». لكن محمود عبد العزيز جارى فيها المخرج مدحت السباعي، وأغلب الظن أنه دفع ثمنها راضياً، كما فعل في تجربته مع المخرج منير راضي في فيلم «زيارة السيد الرئيس»، الذي جسد فيه شخصية رئيس مجلس القرية التي تنتظر القطار الذي يقل رئيس الجمهورية وضيفه الرئيس الأميركي، وقيل إنه سيتوقف فيها، ثم واصل المغامرة بشجاعة في فيلم «البحر بيضحك ليه»، الذي عاد فيه إلى التعاون مع المخرج محمد كامل القليوبي، وقدما فيلماً استعصى على فهم كثيرين عند عرضه قبل اكتشاف أهميته في ما بعد. وفي «القبطان» امتثل لإرادة المخرج سيد سعيد، واحتضن الوجوه الجديدة الشابة، وهو ما فعله مع المخرج الشاب فخر الدين نجيدة في فيلمه الأول «هارمونيكا»، حيث كان شديد التواضع وهو يستجيب لتعليماته، وكأنه يقف أمام مخرج مخضرم مثل سمير سيف في فيلم «سوق المتعة»، الذي لم ينظر إليه بوصفه فيلماً يجمع بين الإثارة ومخاطبة الغرائز، حسبما رآه البعض، بل كان سعيداً به، لإدراكه أهمية ما طرحه الكاتب الكبير وحيد حامد في ما يتعلق بثلاثية القهر والظلم والفساد. ومع وصوله إلى محطة «الساحر» تأليف سامي السيوي وإخراج رضوان الكاشف، يكشف محمود عبد العزيز عن موهبة استثنائية، وقدرة خرافية على الأداء السلس، ويؤكد مجدداً أنه صاحب مدرسة «السهل الممتنع»، بعدما سحر الجميع بنظرته الكاشفة، ورؤيته الثاقبة، وأبوته الحانية، وتمكنه من إشاعة البهجة في أي مكان يحلّ به، رغم ما كان يعتمل في صدره وقلبه من خوف وحزن يكفي الدنيا بأسرها!
ما أردت قوله إن روح المغامرة سيطرت على محمود عبد العزيز، رغم تناقضها مع مفهوم النجومية كما يراها البعض، وأبداً لم يتخل عن جرأته أو يستسلم لعقدة الخوف من الفشل، ومن ثم لم يكرر نفسه كما فعل آخرون!
توابل - سيما
«الكلاسيكي المتمرد»!
18-11-2016