اعتباراً من أواخر شهر يناير المقبل سوف يتمتع دونالد ترامب بسلطة تنفيذية في الولايات المتحدة وبدعم من الكونغرس الجمهوري الموحد، ما سيضعه في موقع يمكنه من تحقيق تغيير عميق وطويل الأجل، والتأثير الاقتصادي لرئاسة ترامب في الأجل القصير قد لا يمثل قدراً كبيراً من القلق بالنسبة الى الأقليات الدينية والعرقية في أميركا أو لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا الشرقية، ولكن ذلك قد ينطوي على ذيول هائلة ومكلفة على أي حال.

وفي المدى القصير، سوف تحظى ردة فعل الأسواق بالقدر الأكبر من الاهتمام، ولن يصبح ترامب رئيساً فعلياً حتى سنة 2017 ولذلك فإن لدى الأسواق الوقت الكافي للتوقع والحساب وتصور التغييرات السياسية المرتقبة، ومع ابتداء عمل أسواق الأسهم فإن انتخاب دونالد ترامب يمكن أن ينذر بانكماش يمتد لفترة طويلة اذا شعر المستثمرون بأن الشكوك التي يطرحها فوز ترامب سوف تطرح درجة ذات تأثير على النمو الاقتصادي وعلى أرباح الشركات أيضاً. ولكن التقلبات في الأسواق وليس الرهان على الانكماش قد يكون الحصيلة الأكثر احتمالاً في هذه الفترة وذلك في ضوء الافتقار الى صورة واضحة حول أولويات الرئيس الأميركي المنتخب وسياسة البيت الأبيض خلال السنوات الأربع المقبلة على أقل تقدير.

Ad

وربما تتعرض أسعار السندات الى قدر كبير من التذبذب والاضطراب نتيجة سعي الأسواق الى الحصول على ضمانة في وجه الخطر المحتمل، ومن المعروف أن السندات الأميركية تشكل الملاذ الآمن الأكبر في العالم في العادة، وعلى أي حال فقد تراجعت أسعار سندات الخزينة الأميركية في الأسبوع الماضي، وقد يتردد التجار والمتداولون ازاء درجة الأمان التي توفرها ديون الحكومة الأميركية، وتكمن المشكلة بالنسبة الى المستثمرين في أن كون سندات الخزينة غير آمنة لن تكون هناك أي سندات أو أدوات استثمار اخرى آمنة.

تقلبات الأسواق

وقد تكون تقلبات الأسواق كافية لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأميركي والعالمي ولكن ربما يكون في ذلك الرأي بعض المبالغة، وعلى سبيل المثال فإن التحولات التي شهدتها الأسواق في أعقاب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) لم تكن ذات تأثيرات فورية ضارة كما كان العديد من المراقبين يتوقع ويخشى، والأكثر من ذلك هو وجود عوامل عكسية، وفي الوقت الراهن لا تزال الأسواق تتوقع أن يقوم مجلس الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة برفع معدلات الفائدة في شهر ديسمبر، ولكن تلك الصورة قد تتغير بسرعة اذا بدت الأسواق غير مستقرة أو ثابتة، على أي حال. وسوف تعمد البنوك المركزية في أماكن اخرى من العالم الى توخي الحذر والحيطة مع الاستعداد لطرح المزيد من التسويات اذا دعت الحاجة الى ذلك.

وإضافة الى ذلك، قد يشكل بيان ترامب حول السياسة حافزاً في المدى المتوسط، وعلى الرغم من أن خطط ترامب لم تطرح بشكل مفصل بصورة محددة فإن عدة جوانب غدت واضحة.

خفض الضرائب

وفي المقام الأول سوف يقوم ترامب بخفض دراماتيكي في الضرائب وبصورة تخدم الأغنياء على الأغلب وهي خطوة من شأنها الحد من تحسن الطلب بصورة ما، ولكن الزيادة الكبيرة في العجز المالي الحكومي سوف تفضي الى هزة في الاقتصاد.

وفي الوقت ذاته يبدو من المحتمل أن يقوم الرئيس الأميركي المنتخب بزيادة الانفاق على شؤون الدفاع والبنية التحتية كما أن مضي ترامب في ترحيل عدد كبير من الناس سوف يؤدي الى مزيد من الانفاق الحكومي. وفي عهد الرئيس باراك اوباما انخفض الانفاق الحكومي والاقتراض – على الرغم من تطبيق تحفيز بقيمة 800 مليار دولار – وذلك على شكل حصة من الناتج المحلي الاجمالي، وهذا الاتجاه سوف يكون عكسياً بكل تأكيد في عهد حكومة جمهورية، وسوف تحدد ردة فعل مجلس الاحتياطي الفدرالي ازاء سياسة الحكومة المدى الذي يترجم ذلك التحسين المالي الى نمو اقتصادي أكثر سرعة.

وقد يتعرض دور مجلس الاحتياطي الفدرالي الى خطر في الاقتصاد نفسه، خاصة بعد أن أعرب ترامب عن انتقاده ازاء خيارات رئيسة المجلس جانيت يلين في السياسة النقدية، واذا استمرت يلين في منصبها فإنها سوف تستمر في العمل حتى عام 2018 وخلال رئاسة ترامب الذي سوف تكون لديه قبل ذلك الوقت فرصة تعيين أعضاء جدد في مجلس إدارة المحافظين.

وفي المدى القصير سوف تكون التعيينات الجانب الأكثر أهمية، وإذا قرر ترامب المضي في اتجاه أكثر شدة ازاء مجلس الاحتياطي الفدرالي فسيكون في حكم المؤكد حدوث ركود في الأجل القصير، وليس من المستحيل أن يعمد ترامب الى تفضيل مجلس احتياطي فدرالي على درجة أقل من الاستقلالية يلتزم باعادة انتخابه لمنصب الرئاسة، وفي الحالتين سوف تصبح السياسة على الأرجح أكثر ليونة وتفضي الى تحقيق نمو أسرع في الانتاج والى رفع معدل التضخم.

التغيرات السياسية الأخرى

سوف يكون للتغيرات الاخرى في السياسة المزيد من التأثير على توزيع المكاسب الاقتصادية، وإذا عمد الجمهوريون الى الغاء خطة اوباماكير المتعلقة بالصحة فإن الملايين من الأميركيين سوف يفقدون تأمينهم الصحي – وسوف يكون لذلك عواقب انسانية خطيرة ما لم تتدخل الحكومة وتطرح خطة بديلة (والبديل الأكثر واقعية الذي لا يفضي الى حرمان عدد كبير من المواطنين من الضمان الصحي هو تمديد التغطية التي توفرها الحكومة وهو شيء لم يفضله الحزب الجمهوري على الرغم من صعوبة التوقع بمثل هذه الخطوة في عهد ترامب)، ثم إن المهاجرين غير المسجلين وأفراد عائلاتهم سوف يكونون معرضين بقدر أكبر الى الخطر في عهد ترامب وبقدر يفوق ما كان عليه حالهم خلال عهد اوباما، ومن شأن ذلك أن يخفض قدرتهم على التحرك وتغيير وظائفهم والطلب من أرباب عمل زيادة أجورهم أو معاملتهم بشكل أفضل.

وإذا تمكن ترامب من ابعاد الولايات المتحدة عن أزمة اقتصادية وشيكة فإن التأثيرات في المدى الطويل لرئاسته سوف تثبت أنها عميقة وفاعلة بقدر كبير. ويخيم الشك في الوقت الراهن على العديد من المؤسسات الدولية كما أن من الصعب على المرء أن يتخيل اتمام اتفاقات تجارية جديدة وربما تتعرض الاتفاقات القديمة الى مراجعة أو حتى الى الغاء، ويتمتع ترامب ببعض الوقت من أجل فرض قيود تجارية مؤقتة من جانب واحد، ولكن مثل تلك الخطوات سوف تواجه باجراءات عقابية من دول اخرى رداً على ذلك.

وضع النمو العالمي

وقد تراجعت صورة وضع النمو التجاري العالمي الى حد كبير مقارنة بفترة بداية القرن الحادي والعشرين، كما أن من الصعب توقع تغيرات السياسة المهمة، وهناك من يشكك في عدم اهتمام ترامب بصورة خاصة بالتعاون الدولي من أجل الحد من التهرب الضريبي أو تقييد سلطة البنوك العالمية، ومن الممكن أن تسحب ادارة ترامب دعمها الى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مع ازالة البعض من مصدات الصدمة في النظام الدولي.

وتجدر الإشارة الى أن ترامب وعد بخفض التنظيم، ولكن من الصعب معرفة كيفية تصرفه ازاء الاتجاهات الاقتصادية المهمة مثل تعضيد الصناعة الأميركية، ومن السهل رؤية قيامه بتوفير الكثير من الفرصة للمناورة بالنسبة الى الشركات القوية، وسوف يكون ذلك جيداً في ما يتعلق بالأرباح فيما يشجع الاتجاه الوطني حول العالم، مع تقويض احتمالات النمو الطويل الأجل في الاقتصاد الأميركي وخفض قوة المساومة لدى العمال.

بعض الصناعات، مثل شركات الوقود الحفري، التي شعرت بضرورة التقدم بحذر في عهد الرئيس اوباما قد تتمتع بمزيد من الحرية في ظل رئاسة ترامب، وقد يكون ذلك جيداً بالنسبة الى منتجي الطاقة في المدى القصير، وربما بالنسبة الى المستهلكين أيضاً. ومن جهة أخرى يتعرض التقدم الذي حققته الحكومات في السنوات القليلة الماضية في مجال خفض الانبعاثات الغازية العالمية الى خطرحقيقي في الوقت الراهن، وقد أوكلت الولايات المتحدة السيطرة على أكبر اقتصاد في العالم الى حزب لا يؤمن بقضية الاحتباس الحراري وفي لحظة مهمة من المعركة الهادفة الى ابقاء الزيادة في درجات الحرارة ضمن مستوى مقبول – وربما تكون التأثيرات الطويلة الأجل لهذا الخيار كارثية.

العوامل المجهولة

ثم إن هناك العوامل المجهولة، وعلى سبيل المثال فإن ترامب يتحكم في أقوى قوة عسكرية في العالم، ومن الصعوبة بمكان معرفة كيفية استخدامه لتلك القوة، أو تحديد الآلة الدبلوماسية للحكومة الأميركية، وأي تحرك نحو نزاع أوسع في الشرق الأوسط أو آسيا يمكن أن يفضي الى تداعيات اقتصادية خطيرة: من ارتفاع حاد في سعر النفط الى الهلع في الأسواق وحدوث اضطرابات في التجارة العالمية، ويستحيل توقع التكلفة الاقتصادية والبشرية للحرب ولكنها سوف تكون مرعبة.

وعلى الرغم من أن ترامب قد لا يسبب نزاعات جديدة بالنسبة الى الولايات المتحدة والعالم أو الركود العالمي فإن تأثيره على مسار النمو العالمي والتنمية قد يكون حيوياً ومخيفاً، وربما يعمد ترامب الى اتباع خط عكسي في عملية العولمة التي تعثرت في الأساس، ولن يفضي ذلك الى عصر ذهبي بالنسبة الى العمال في ميدان الازدهار والرخاء والأمن، وبدلاً من ذلك فهو سوف يزيد من المدى الذي ينطوي على انعدام المنافسة في الاقتصاد العالمي مع زيادة خطر حدوث نزاع سياسي.

ومن شأن ذلك أيضاً أن يدمر سلالم التنمية المتردية وسوف تجد الدول النامية نفسها أقل قدرة على استخدام التجارة من أجل تحسين امكانات النمو وأقل قدرة على ارسال مهاجرين الى الدول الأغنى، ثم إن التعاون الدولي الذي وفر البعض من الحماية في مواجهة المصاعب المالية أو الاقتصادية سوف يواجه في الوقت نفسه احتمالات الانهيار في العالم النامي، وسوف يزداد سوء وضع تغير المناخ وصورة عالم ترامب أكثر قتامة الى حد كبير بالنسبة الى اولئك الموجودين في خارج العالم الغني من القابعين في داخله، وعلى الرغم من ذلك كله فإن الصورة مظلمة بما فيه الكفاية.