"الفساد"... مصطلح يشير بشكل عام إلى حالات انتهاك مبدأ النزاهة، غير أن ما تشهده مؤسسات الدولة من فساد استفحل حتى ضرب أطنابها، يتخطى بكثير هذا المعنى، ليجسد أوجها أخرى من الفساد غير مألوفة لدى المجتمع، بلغت حد "الجشع" والمتاجرة بمرض وعجز أقرب الأقربين، وتسخيره لبلوغ استباحة المال العام.

بالأمس القريب، أماطت وزارة الشؤون اللثام عن قضية فساد أزكمت الأنوف في ملف المساعدات الاجتماعية، التي كانت تصرف لآلاف الحالات من غير المستحقين الأحياء منهم والأموات، ما حدا بوزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، وزيرة الدولة لشؤون التخطيط والتنمية هند الصبيح، الأخذ بتوصيات لجنة مراجعة الملفات، ووقف صرف المساعدة عن آلاف الحالات، وقفاً احترازياً، إلى حين تحديث بياناتهم، وتقديم ما يثبت أحقيتهم في استمرار عملية الصرف، أما اليوم فتكشف "الجريدة" عن قضية فساد جديدة بطلتها (الهيئة العامة لشؤون ذوي الإعاقة).

Ad

استباحة المال العام

القصة بدأت من رغبة الوزيرة الصبيح، في أرشفة ملفات ذوي الإعاقة المتراكمة والمهملة، وإدخالها إلى الحاسب الآلي، وهنا ظهرت المفاجأة، وتجلى معها كم الفساد والتلاعب واستباحة المال العام المستفحل داخل أروقة "الهيئة"، سواء من قبل الموظفين كبارا كانوا أو صغارا، أو من ذوي المعاقين، هذا الكم الهائل من الفساد حضّ الصبيح على مراجعة جميع ملفات المعاقين المسجلة لدى "الهيئة"، الذي يتخطى عددها 50 ألف ملف، حيث أظهرت عمليات المراجعة لعدد من الملفات وجود 71 شخصا ممن يرعون معاقين، يعملون في شركات بالقطاع الخاص.

صورة ضوئية للمطالبة برد المبالغ المصروفة دون حق

كما تم اكتشاف 174 شخصاً ممن يرعون معاقين أيضا يمتلكون شركات أو شركاء فيها، وجميعهم يحصلون على الامتيازات المالية المخصصة لهذه الحالات، في مخالفة صريحة للفقرة الثانية من المادة رقم (29) من القانون 8 لسنة 2010، الصادر بشأن حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، التي قضت بأن "يستحق من يرعى معاقاً، (إذا كانت الإعاقة شديدة، ولا يعمل) مخصصاً شهرياً وفقاً للشروط والضوابط التي تضعها الهيئة"، أي أن القانون اشترط للحصول على الامتياز المالي ألا يكون راعي المعاق لديه عمل.

المعاش التقاعدي

ومن الحالات المكتشفة أيضا، وجود 40 معاقا يحصلون على مساعدة، دون سن الـ18 عاما، ويمتلكون أو شركاء في شركات بالقطاع الخاص، إضافة إلى اكتشاف 14 شخصا يحصلون على معاش إعاقة، ومستمرون في صرف المخصصات المالية، رغم عملهم في القطاع الخاص، فضلاً عن اكتشاف 151 شخصا يحصلون على معاش إعاقة أيضاً، ويمتلكون أو شركاء في شركات بالقطاع الخاص، في مخالفة صارخة لنص المادة رقم (43) من القانون (8/2010) التي قضت بأن "يستحق الشخص ذو الإعاقة (العاجز عن العمل) معاش إعاقة طبقاً للشروط والأوضاع التي يصدر بها قرار من الهيئة، ولا يجوز الجمع بين هذا المعاش والمخصص الشهري المستحق طبقاً للمادة (29) والمعاش المستحق طبقا للمادة (41) من هذا القانون، أو طبقاً لقانوني التأمينات الاجتماعية أو معاشات ومكافآت التقاعد للعسكريين المشار إليهما، ويصرف لذي الإعاقة المعاش الأكبر منهما".

ومن التلاعبات المكتشفة أيضاً، وجود 7 أسماء ترعى معاقين بأسماء إناث، غير أنه بالكشف عن ارقامهم المدنية، تبين أنها تخص ذكوراً، كما تم اكتشاف 181 معاقا يحصلون على مساعدة شهرية دون سن الـ18، وملفهم الطبي موقوف، فضلاً عن اكتشاف 85 شخصا ممن يرعون معاقين ملفهم الطبي موقوف أيضاً.

بدلا السائق والخادم

التجاوزات أيضاً أكدت مدى استباحة المال العام، حيث كشفت الجمع بين الامتياز المالي الخاص ببدلي السائق الخادم، بواقع 150 دينارا عن كل بدل، أي 300 دينار، في مخالفة صارخة لنص المادة رقم (45) التي قضت بأن "يمنح الشخص ذو الإعاقة، الذي تقرر اللجنة الفنية المختصة أن إعاقته توجب الاستعانة بـ(سائق أو خادم) مقابلا مادياً تحدده الهيئة وفقاً للشروط والضوابط التي تضعها لذلك على ألا يقل عن 100 دينار"، غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد من التلاعب، واستباحة المال العام، بل ذهب لأبعد من ذلك، حيث تم اكتشاف (مافيا) تقودها مجموعة ممن ترعى معاقين، تتمثل في عاملة منزلية (خادمة) مسجلة على 9 عائلات ترعى معاقين، وبالكشف عنها تبين أن إقامتها ليست على أي منهم، بل مسجلة على ملف صاحب عمل آخر خلافهم.

تلاعبات القرض الإسكاني

وأظهرت عمليات المراجعة، تلاعبا في منح شهادات الإعاقة، للحصول على الدرجة الأعلى، وهي (الشديدة) التي تمكن المعاق أو ذويه من الحصول على الحد الأعلى من القرض الإسكاني، وفقاً للمادة رقم (32) التي قضت بأن "يستحق الأشخاص ذوو الإعاقة الشديدة، أو ذووهم ممن تنطبق عليهم شروط التمتع بالرعاية السكنية منحة مقدارها 10000 دينار زيادة على قيمة القرض الإسكاني المخصص لأقرانهم من غير ذوي الإعاقة، حتى يتم بناء السكن وفقاً لما يحتاجون إليه من مواصفات خاصة، طبقاً للشروط والضوابط التي يصدر بها قرار من الهيئة بالاتفاق مع بنك التسليف والادخار، كما يمنح الأشخاص ذوو الإعاقة البسيطة أو ذووهم مبلغ 5000 دينار".

... وأخرى تطالب مديناً برد المبالغ

غير أن الأمر لم يقف عن هذا الحد، بل تم اكتشاف حالات إعاقة ذهنية شديدة، تقدمت بطلبات للهيئة للحصول على دعم تعليمي، رغم مرور اشهر قليلة على استخراج شهادة الإعاقة الشديدة، ما يؤكد وجود تلاعبات في منح شهادات درجات الإعاقة، للتمتع بالمزايا المالية المخصصة لأصحاب هذه الفئة.

تلاعبات الموظفين

ومن ضمن أوجه الفساد المكتشفة داخل أروقة الهيئة، فساد بعض الموظفين، حيث تم اكتشاف أحد المراقبين يتلاعب في شهادات درجات الإعاقة، التي تضمن حصول المعاق أو الصحيح على الحد الأعلى من المزايا المالية... هذا الموظف اعتاد دخول مقر الهيئة في العطل والإجازات الرسمية، وتغيير درجات الإعاقة، نظير الحصول على رشاوى من صاحب الشهادة، غير أن الأمر الأخطر المكتشف هو اتباع اسلوب المساومات من بعض الموظفين حيال ذوي الإعاقة، نظير تسهيل حصولهم على حقوقهم، مقابل الحصول على رشاوى.

إجراءات الهيئة

لم تقف الهيئة العامة لشؤون ذوي الإعاقة مكبلة الأيدي حيال هذا الكم الهائل من الفساد والتلاعبات، بل اتخذت إجراءات جدية، من شأنها اصلاح هذا الوضع المتدهور، فقد تم حصر جميع الأسماء (سواء من المعاقين أو ذويهم)، الذين تقاضوا مبالغ مالية دون حق، بلغت ملايين الدنانير، والبدء في عملية مطالبتهم برد هذه المبالغ على وجه السرعة، لكون هذه الأموال من المال العام ولها حرمتها، إضافة إلى وجود إحالات إلى النيابة العامة لكل من ساهم أو سهّل أو تورط في التحايل أو التلاعب على القانون.

قرار منع موظفي الهيئة من الوجود بعد ساعات الدوام الرسمي

كما تم تثبيت كاميرات مراقبة في جميع ردهات الهيئة وطوابقها، لرصد دخول أي شخص غير مسؤول، أو أي مسؤول يدخل دون علم الإدارة العليا للهيئة، إضافة إلى تغيير كل الأقفال، وتركيب اقفال الكترونية بأرقام سرية لمنع التسلل إلى الغرف والتلاعب في الملفات وشهادات الإعاقة، وقصر عملية الدخول على المصرح لهم والمخولين فقط.

وأصدرت مدير الهيئة، د. شفيقة العوضي، القرار الإداري رقم (31) لسنة 2016، الذي قضى بأنه "يحظر على جميع موظفي الهيئة الوجود في مقرها، عقب انتهاء ساعات الدوام الرسمي، أو خلال العطل والإجازات الرسمية، دون الحصول على إذن كتابي من نائب المدير العام التابع له الموظف، ويخالف ذلك يعرّض نفسه للمساءلة القانونية"، إلى جانب كل ما سبق، فقد تم وقف منح القرض الإسكاني عن 400 ملف من ذوي الإعاقة، لعدم وجود تقارير طبية.