القوة الملزمة للمذكرة التفسيرية

Ad

كتبت في مقالي الأحد قبل الماضي تحت هذا العنوان في "الحلقة الأولى" أن حرمان أبناء الأسرة الحاكمة من حق الترشح للانتخابات ينطوي على مخالفة لمبدأ الاقتراع العام المنصوص عليه في المادة (80) من الدستور، وإهدار للحريات العامة التي كفلها الدستور في المادتين 36 و37، وإخلال بمبدأ المساواة المنصوص عليه في المواد 7 و8 و29 من الدستور. وقد أفردت مقال الأحد الماضي (الحلقة الثانية) لتفسير ما ورد في المذكرة التفسيرية للدستور من عبارات أوردتها في سياق تعليقها على الحكم الذي تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور من أن" يكون تعيين الوزراء من أعضاء مجلس الأمة ومن غيرهم" عندما قالت المذكرة، في تبرير من تبريراتها له وفي سياق التقريرات التاريخية عن الدساتير الملكية، إنه سوف يؤدي إلى جواز تعيين أعضاء الأسرة الحاكمة من خارج مجلس الأمة، وإنه الطريق الوحيد لمشاركتهم في الحكم، وبذلك فهي لا تنهض - في رأينا - سندا لحرمانهم من ترشيح أنفسهم للانتخابات، وهم كويتيون بصفة أصلية، خاصة مع قول المذكرة ذاتها، إنه يشفع لهذا الاستثناء بالنسبة إلى الكويت بصفة خاصة، كون الأسرة الحاكمة من صميم الشعب تحس بإحساسه ولا تعيش في معزل عنه، تعبيراً عن رفض الدستور للحظر الذي تنص عليه الدساتير الملكية، بالنسبة إلى أبناء الأسر الملكية، ولم يكن تفسيراً للنص الدستوري محل تعليق المذكرة.

حكم «الاستئناف» و«التمييز» لن يحسم الخلاف

إلا أنه صدر حكم محكمة الاستئناف بإلغاء الحكم الذي أصدرته الدائرة الإدارية بالمحكمة الكلية، في الطعن المرفوع من أحد أبناء الأسرة الحاكمة، والقاضي بإلغاء القرار الصادر باستبعاده من قائمة المرشحين للانتخابات البرلمانية، على سند من القوة الملزمة للمذكرة السالفة الذكر.

وأياً كانت الكلمة التي سوف تقولها محكمة التمييز في الطعن على حكم محكمة الاستئناف السالف الذكر، ليصبح حكمها عنواناً للحقيقة، فإن ذلك لن يكون فصل الخطاب في نطاق وإطار القوة الملزمة للمذكرة التفسيرية للدستور، ذلك أنه ولئن كانت محكمة التمييز، وهي محكمة قانون، هي خاتمة هذا النزاع، فإنها لا تفصل إلا في الطعون المعروضة عليها، وتفسيرها للدستور أو القانون ليس ملزماً إلا في هذه الطعون، ولا يكون لأحكامها إلا قيمة أدبية تدعو المحاكم الأدنى إلى الأخذ بمبادئها، دون إلزام عليها في ذلك.

تقديرنا لقوة إلزام المذكرة التفسيرية

ومع تسليمنا بما قالته المذكرة في ختامها من أن يكون تفسير أحكام الدستور في ضوء ما ساقته من تصوير عام لنظام الحكم، ومن الإيضاحات المتفرقة بشأن بعض المواد على وجه الخصوص. وهي التوصية الملزمة التي أوصى بها المجلس التأسيسي في ختام المذكرة التفسيرية التي تليت عليه في جلستين متتاليتين، ووافق عليها، موافقة عامة، وليس على كل عبارة وردت فيها، بعكس ما كان يجرى من التصويت على كل مادة من مواد الدستور. ومع تقديرنا لكل ما ورد في المذكرة التفسيرية للدستور من تقريرات تاريخية ومقارنات بالدساتير المقارنة وتجارب الدول الأخرى، وأنها كانت في كل ذلك في غاية سحر البيان والبلاغة القانونية والسياسية، فقد كتبها خبير دستوري، هو الدكتور عثمان خليل، رحمة الله عليه، وهو الخبير الأريب الذي لا يشق له غبار في هذا المضمار، بحكم علمه الغزير وإلمامه التام بالدساتير المقارنة، والاتجاهات الحديثة فيها، وكان يدرّس هذه الاتجاهات لطلبة الماجستير والدكتوراه بجامعة القاهرة 57-58، حيث تتلمذت على يديه، ثم انبهرت بالدستور الذي وضعه للكويت، وأنا أرتوي من معانيه الراقية، ومن عباراته الجميلة وعبارات المذكرة التفسيرية كل يوم، ما يجعلني أظمأ إلى المزيد.

حيث جاء الدستور نموذجاً يحتذى به، لتنهل التجارب الدستورية الأخرى، من فيض الأحكام التي حفل بها في تقرير مبادئ الحرية والعدل والمساواة، والتي جعل أعضاء هذا المجلس من ضمائرهم السياج المتين والملاذ الأمين لها، بتقريرهم عدم المساس بها ولو بتنقيح الدستور ذاته.

المحكمة الدستورية رمانة الميزان

ومع ذلك التسليم وهذا التقدير، فإنه لن يحسم الخلاف حول الحدود والإطار الذي يجب أن يقف عنده الإلزام بالتقريرات المختلفة الواردة في المذكرة التفسيرية، والتي لم ترد تفسيراً لنص دستوري، أو وردت بما يخالفه، أو يخصص من عمومه أو يقيد من إطلاقه، إلا حكم للمحكمة الدستورية يضع معياراً محدداً للتفرقة بين ما يكون ملزماً في هذه المذكرة، وبين ما لا إلزام فيه، والذي نأمل أن يكون قريباً، سواء من خلال حكم يصدر في دعوى أصلية، يرفعها أمامها أحد أفراد الأسرة الحاكمة أو أحد المواطنين، أو من خلال قرار تصدره في طلب تفسير تصدره المحكمة الدستورية، بناء على طلب الحكومة أو مجلس الأمة.

وهو ما رأيت معه أن أفرد دراسة للقوة الملزمة للمذكرة التفسيرية للدستور، وهي دراسة لا يتسع لها المقال الصحافي، أتناول فيها الموضوع من منظور دستوري وقانوني، بعيداً وبمعزل عن الحسابات السياسية، التي قد تتأثر بظروف سياسية وواقعية قد يكون لها وزنها وتقديرها، بالنسبة إلى مسألة بعينها وردت في المذكرة التفسيرية، وفي مرحلة من مراحل المسار الديمقراطي، وقد تتغير هذه الظروف بالنسبة إلى المسألة ذاتها في مرحلة تالية، وقد تطل مسألة أخرى برأسها في هذا المسار، ونقع في حرج دستوري وقانوني، إذا أطلقنا قوة الإلزام على كل ما ورد في المذكرة التفسيرية من تقريرات وعبارات.