سُئل نابليون بونابرت يوماً عن السبب في قلة عدد رجال الدولة العظماء؛ فأجاب: "إن الوصول إلى السلطة يتطلب حقارة مطلقة، وممارسة السلطة تتطلب عظمة مطلقة، وقلما تجتمع الحقارة والعظمة في شخص واحد، لذلك ليس لدينا الكثير من القادة العظام".لطالما بذل الأشخاص الذين يخوضون المعارك السياسية جهوداً كبيرة لتحقيق أهدافهم، ولطالما أسقط معظمهم الاعتبارات الأخلاقية في طريقهم لتحقيق مراميهم.
سيمكن لأي متابع حصيف أن يتأكد من ارتفاع منسوب الحقارة خلال احتدام المعارك السياسية، وخصوصاً عندما تقود تلك المعارك إلى التنافس في الانتخابات؛ إذ يبذل بعض الفرقاء المتنافسين جهوداً مضنية من أجل إقناع الناخبين بالتصويت لصالحهم، وشيطنة منافسيهم، وإلحاق الأذى بهم، وتلطيخ سمعتهم، والطعن في قدراتهم، من أجل منع الناخبين من منحهم أصواتهم.عندما قال نابليون هذه المقولة لم تكن الانتخابات العامة إحدى الوسائل التي يمكن أن تحسم التنافس على السلطة، وربما يكون أراد بقوله إن "الوصول إلى السلطة يتطلب حقارة مطلقة"، أن يصف وسائل التآمر السياسي، وتدبير المكائد، ونصب الأفخاخ، وتنفيذ الانقلابات، بما قد تنطوي عليه من قتل وغدر وخيانة.ستأتي آلية الانتخابات لاحقاً لتهذب وسائل التنافس السياسي على السلطة، وتجعلها أقل حدة وعنفاً، لكن ليس بالضرورة أقل حقارة.يمكن وصف المحتوى السياسي الذي ظهر خلال المعركة الانتخابية الأميركية الأخيرة بين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية هيلاري كلينتون بالتدني بكل تأكيد؛ إذ انطوى على كم كبير من الاتهامات والانتقادات والشتائم غير اللائقة، والأخطر من ذلك أنه حفل بالكثير من الأكاذيب.لا يسعى هذا المقال إلى قياس أثر نجاح ترامب في الشؤون السياسية الدولية، ولا يستشرف تداعيات فوزه برئاسة أقوى دولة في العالم على منطقة الشرق الأوسط، ولا يرصد الأسباب التي حملته إلى سدة السلطة على خلاف معظم التوقعات، ولكنه يحاول إلقاء الضوء على "دور الحقارة" في تحقيق هذا الانتصار.لم يخض ترامب انتخابات سياسية طوال حياته، ولم يتول منصباً حكومياً، كما لم يعلق على الشأن العام إلا من خلال رؤى قاصرة وعبارات حادة ومواقف منفلتة، مثل تلك التي يعبر بها محدثو الثراء، أو رجال الشرائح الأدنى من الطبقة الوسطى، على الأوضاع العامة في أي بلد.كثيرون من المقربين من حملة ترامب أشاروا إلى أنه لم يكن يتوقع في أسعد أحلامه أن ينجح في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري، عوضاً عن أن يصل إلى البيت الأبيض، ولذلك فإنه، بحسب هؤلاء، "لم يكن يحسب حساباً لما يفعله أو يقوله".لقد أتى هذا الرجل إلى المشهد الانتخابي متحرراً من أعباء الخبرة والتاريخ والالتزام السياسي، وبدأ في الحديث على المنصات كأنه مهرج في سيرك، وكلما زاد شططه وحجم الانفلات في ما يقول، علت ضحكات الحضور، وبات محبوباً، وزاد الطلب عليه.ربما راهن ترامب على الطبقة التي يريد أن يستهدفها... بالطبع لا تقع فرائسه في الشمال الشرقي والساحل الغربي، ولا يهتم بهؤلاء الملونين، والشباب المتعلمين تعليماً جيداً، والنساء المسيسات والناشطات في مجال الخدمة العامة.راهن ترامب على هؤلاء الذين يعيشون في الولايات الجنوبية، والغرب الجبلي، والوسط الجنوبي، خصوصاً من البيض الأكبر سناً، والأقل تعليماً، والذين يشاهدون الوظائف تنسحب من بين أيدي عائلاتهم، لأن العمالة المهاجرة يمكنها أن تبلي أفضل، وأن تحصل على أجور أقل.استهدف ترامب المسيحيين الإنجيليين، الذين يظهرون اهتماماً أكبر بالتدين، والذين يبدون مخاوف أكبر من الإرهاب، ويعانون من أعراض "الإسلاموفوبيا"؛ ولذلك فقد اختار وسائل فعالة للحصول على أصوات هذه القطاعات.لم يكتف ترامب بممارسات حقيرة وغير مسؤولة من نوع اتهام أوباما بأنه لم يولد في الولايات المتحدة، لكنه أيضاً اتهم هيلاري بأنها "محتالة" و"صانعة إرهاب"، وحرض على استخدام العنف ضدها، وهدد بسجنها.شن ترامب الهجمات الحادة ضد بعض المواطنين الأميركيين؛ مثل عائلة الجندي المسلم، وواصل سياساته وأقواله الرامية إلى تحقير النساء، ومهاجمة المهاجرين، كما تعهد أيضاً ببناء سور على الحدود مع المكسيك، وترحيل عشرة ملايين مهاجر لا يحملون وثائق، ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وفرض إتاوة حماية على دول مهمة مثل اليابان والسعودية وكوريا الجنوبية بداعي أن بلاده تدافع عن أمنها.فعل ترامب ما هو أكثر من ذلك؛ فقد كذب كذباً مفضوحاً على الناخبين، حينما أوهمهم بأنه سيعيد التصنيع في الولايات المتحدة كما كان سابقاً، وسيقلص الاعتماد على تشغيل المعامل خارج البلاد للاستفادة من العمالة ومستلزمات الإنتاج الرخيصة Outsourcing، بما يشمله هذا من إلغاء اتفاقية التجارة الحرة؛ وهي أمور غير منطقية، لأن هذا الأمر سيزيد من الأعباء على الاقتصاد، ويرفع سعر المنتجات، بما يفقدها أي قدرة تنافسية.بخليط من الممارسات الحادة والمنفلتة، والوقاحة، والكذب، حرك ترامب الراكد، واستطاع أن يستفيد من تضعضع موقف هيلاري السياسي، وعدم قدرتها على مجاراته في الانفلات والتعهدات غير المسؤولة، لكي يهزمها.بسجل أخطاء كبير، ومواقف ملتبسة، لم تكن هيلاري بديلاً جيداً لحكم الولايات المتحدة، ولا يوجد ما يؤكد أنها كانت أفضل بالنسبة إلى القضايا العربية، لكن ترامب مع ذلك أدار المعركة معها بكثير من الحقارة؛ حيث استفاد من وضعه "اللامسؤول" في المزايدة عليها باعتبارها "مسؤولة"، فأطلق العنان لوعوده المأفونة وغير المدروسة.بعد كل تلك الحقارة التي أوصلته إلى السلطة، ولكي يصبح ترامب رجل دولة عظيماً، سيحتاج، كما قال نابليون، إلى أن يمارس السلطة بـ"عظمة مطلقة"؛ وهو أمر يبدو صعباً وغير متوقع على أي حال.لكن الإشارات تفيد بأن هذا الرجل الذي جاء محمولاً على دعائم من النزق والانفلات واللامسؤولية، يبدو حالياً أكثر تحسباً لخطواته، وأقل ارتكاباً للأخطاء، وأكثر قابلية لتعديل مواقفه، وهو أمر قد يساعد في الحصول على رجل دولة، ليس بالضرورة عظيماً، لكن على الأقل ليس هذا المهرج المنفلت الذي وصل إلى منصبه بفضل الحقارة.* كاتب مصري
مقالات
هل يصبح «المُهرج» رجل دولة؟
20-11-2016